تتنوع أسباب السفر الموسمي بغرض السياحة لدى كثير منا، بدءاً من تحقيق انتصارات نسائية بين الصديقات والأخوات والجارات استعداداً لليلة تتويج صاحبة أفخم وجهة في استراحة العائلة في مشهد غرور بالوني هائل الانتفاخ، مروراً بفوبيا الحرية التي يندفع بها بعضهم مسكوناً برغبات جماعة في كسر كل قيد والتجرد من أي كل رقابة وارتكاب كل ممنوع، ووصولاً إلى تلك الرحلة الثقافية المنضبطة وفق برنامج جعل صاحبه من سفره أشبه بقراءة على الطبيعة لملامح بقعة جديدة من العالم، المكان والزمان والإنسان، أسوة بقدامى الرحالة العرب، مع نصيب لا بأس به من الانطلاق والاستمتاع المحسوب.
وفي الوقت الذي يبحث فيه الصنف الأول عن أقوى عناصر الإبهار والإثارة التي تجعل من حفل التتويج بين الأقارب حال العودة حفلاً أسطوراً، بين الملاهي والمصائف ودور السينما والمطاعم ومراكز التسوق، يبحث الصنف الثاني المنطلق وراء الحرية التي يحلم بها أينما كانت وحيثما كانت عن أقدر الوجهات على استعاب طاقات خياله الجموح، يبقى الصنف الأخير الأقرب إلى ثقافة السياحة التي يعرفها العالم، والأقدر على التخطيط لرحلة سياحية ممتعة ومفيدة في آن.
وعلى الرغم من النصائح الشكلية التي تفيض بها مواقع شركات السياحة والطيران قبيل الموسم السياحي، تلك التي تنصيب على شراء الحقائب وحجز التذاكر وحجز الفنادق، تبقى خطة الرحلة الحقيقية غير مطروقة كثيراً، تلك الخطة ذات الارتباط المباشر برحلة سياحية ناجحة، ما من شك في أنها ستكون أكثر إمتاعاً من الانطلاق غير المحسوب ثم العودة ببقايا لحظات استهلاكية للوقت والمال حافلة بتفريغ الطاقات لا أكثر.
أزمة صناعة
ويبدو هوة الغياب الكبير عن فكر السياحة الثقافية أكثر عمقاً واتساعاً، حيـــن تدخل الحكومات طرفـــاً في وقعة الإهمال المشـــترك، الأمر الذي يرصده بدقة فاروق يوسف، الكاتب في صحيفة المستقبل، تحت عنوان (بلاهات السياحة الثقافية) ملقياً اللوم على آثارنا العربية التي تدفع ثمن فشل الترويج لها شأن آثار أخرى ربما تكون أقل قيمة منها نجح أهلها في الترويج لها، فيعجب الكاتب لمشهد المئات من البشر الذين يقفون في طوابير طويلة منتظرين دورهم للدخول إلى متحف كاللوفر لمشاهدة رائعة ليوناردو دافنشي (الموناليزا) قائلاً: «في كل مكان ترى سهماً يشير إلى الاتجاه الذي عليك أن تأخذه لتصل إلى رائعة ليوناردو. هناك خرائط يحملها الزبائن تدلّهم إلى ذلك الكنز. وفي الطريق إلى ذلك الكنز، يمر السائحون بروائع تختزل مغامرة الخيال البشري عبر العصور، من وادي الرافدين ومصر حتى القرن التاسع عشر، غير أن كل تلك الروائع لا تثير اهتمامهم فلا يلتفتون إليها ولا حتى يتساءلون. هناك نقطة تلمع في مكان ما ينبغي الوصول إليها، هي سبب كل هذا العناء. شيء أشبه بالحج إلى مزار تعمي زيارته الأبصار عما يسبقه وعما يقع من حوله».
وفي مسعى منه للتفرقة بين السياحة الثقافية والثقافة السياحية. يكشف عن أن هناك بلداناً صارت ضحية للثقافة السياحية، ضارباً بذلك مثلاً بحفلات التصوف في المغرب، واصفاً إياها بأنها «حفلة تبدو كما لو أنها من اختراع أحد المستشرقين. ممثلون وأقنعة وجمل قرآنية وأجساد نساء» متسائلاً: «أيجدر بالإسلام المعتدل أن يكون كذلك؟»
ويتحسر الكاتب على مدينة مثل بيروت بتاريخها وحيوية شعوبها بعدما حُكم عليها بأن تكون مجرد مطابخ. قائلاً: «سيقال إن الطعام في بيروت لذيذ دائماً، تنافسها إسطنبول..
وبهذا تكون بيروت مطعماً كبيراً» متسائلاً: «أما كان في إمكان لبنان أن يكون بلدا يستدعي القادمين إليه إلى سياحة ثقافية (جبيل، بعلبك، صور على الأقل) بدلاً من أن يستهلك ذاته المسحوقة في دقيق ثقافة سياحية، مادتها أبخرة الصحون الشعبية؟».
حظوظ السعودية
أما في بلد كالسعودية فيرى عدد غير قليل من المختصين والأكاديميين أن لدى لديها إمكانات لا يستهان بها على صعيد تفعيل تجربة سياحة ثقافية لافتة في ظل وصـــول عدد المتاحف الخاصة والمجموعات في المملكة إلى ما يقارب 200 متحـــف ومجموعة، تم الترخيص لنحو 70 متحفاً منها تقريباً، وهي المتاحـــف التي تنطبق عليها الشـــروط المبدئية التي حددتها الهيئة العامة للسياحة والآثار.
ويعزز من فرص السعودية وإمكاناتها على صعيد إيجاد صناعة سياحة ثقافية حقيقية مساعي الهيئة العامة للسياحة والآثار إلى توظيف بعض المباني الأثرية والتاريخية التي تم ترميمها كمتاحف للمحافظات، ويبلغ عددها 15 متحفاً، منها متحف المدينة المنورة، ومتحف الدوادمي بقصر الملك عبد العزيز، ومتحف وادي الدواسر بقصر الملك عبدالعزيز، ومتحف محافظة ضبا بقلعة الملك عبدالعزيز، ومتحف الوجه بقلعة السوق، ومتحف محافظة شقراء ببيت السبيعي، ومتحف محافظة القريات بقصر كاف، ومتحف طريق الحج الشامي بقلعة الحجر، ومتحف سكة حديد الحجاز بورشة القطارات بالحجر، ومتحف محافظة المجمعة ببيت الربيعة، إضافة إلى تحويل قصر خزام بمدينة جدة إلى متحف للتراث الإسلامي يحمل اسم الملك عبدالعزيز، ودراسة تأهيل قصر الملك عبدالعزيز بالبديعة وتحويله إلى متحف للصور التاريخية بالتعاون مع الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض ودارة الملك عبدالعزيز وأمانة مدينة الرياض.