يقول الله جلَّ شأنه في كتابه العزيز{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}..
والدي العزيز:
لم يكن يوم الأحد 27-6-1435هـ يوماً عادياً في حياتي أنا وإخوتي، فقد اعتدنا طوال أربعة أشهر إلا يومين أن نذهب إلى المستشفى للاطمئنان عليك وقضاء ساعة من الزمن بجانبك (هي المسموح بها في اليوم) مع علمنا بصعوبة وضعك الصحي، ولكن كان رجاؤنا بالله كبيراً أن يمن عليك بالشفاء.
أما في هذا اليوم فقد ذهبنا لاستلام جثمانك الطاهر بعد أن انقضى أجلك وحانت ساعة رحيلك عن هذه الدنيا.
فلك أن تتصور يا أبي كيف كانت أقدامنا تتثاقل عن الذهاب إلى ثلاجة الموتى بالمستشفى لاستلام جثمانك، ولكن قضاء الله نافذ، فلك الحمد ربي على ما قضيت وقدرت. فلك ما أعطيت ولك ما أخذت وكل شيء عندك بأجل مسمى.
والدي: يعجز القلم عن أن يكتب جزءاً من سيرتك فكيف بسيرتك العطرة وحياتك المليئة بالأفراح والأحزان والتجارب وقوة التحمل وتجاوز العقبات وعدم الاستسلام للعوائق بالإضافة إلى ما وهبك الله من الصفات الحميدة التي اشتهرت بها عند من يعرفك.
وما ثناء الناس عليك إلا إثبات لذلك فهم شهود الله في أرضه. ولكن سأكتب عن صفتين لعل فيهما البلغة والفائدة ورب قليل أغنى عن كثير.
لقد كنت يا والدي (واصلاً رحمك) تلك الصفة التي رفع الله شأنها وجعل جزاءها عظيماً وإني لأرجو الله أن تكون سبباً بعد رحمته لك في دخولك الجنة، فلقد قال تعالى {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) رواه البخاري.
ولقد شهد لك بذلك الأباعد قبل الأقارب بحرصك على صلة من له حق عليك ومن لك حق عليه ونحن أبناؤك نتذمر أحياناً ونعتذر أحياناً أخرى بمشاغل الحياة لا للزهد بالأجر ولكن شفقة عليك خصوصاً بعد تقدمك في العمر وتأثير المرض عليك، ولكنك كنت تعطي دروساً عملية في قوة تحمل المشقة وتهوين الأمور من أجل مشاركة أحبابك وأصحابك في أفراحهم وأحزانهم غير آبه بوضعك العمري والصحي، لأنك كنت تتلذذ في تلك الطاعة وذلك العمل الصالح الذي تقوم به، فأنت لا ترجو مدحاً ولا ثناءً ولا جزاءً ولا شكوراً وإنما ترجو المثوبة والأجر من الله.
ولعلي أستشهد بذلك المثال فقد وصلك خبر وفاة ابن عمتك (محمد بن مطلق العصيمي - أبو حامد) في الكويت قبل دخولك المستشفى بيومين ومع ما كان واضحاً على صحتك الاعتلال إلا أن ذلك لم يمنعك من السفر إلى دولة الكويت لتقديم واجب العزاء، وقد حاولنا إقناعك بالاكتفاء بالاتصال فأنت ممن يُعذر ولكن لم نستطع لذلك سبيلاً، وسافرت من الزلفي إلى الكويت وعدت في اليوم نفسه وفي اليوم التالي داهمتك النوبة القلبية نتيجة مرض القلب فدخلت في غيبوبة تامة استمرت أربعة أشهر حتى توفاك الله، فكان ذلك السفر آخر عمل قمت به فأرجو أن تكون من الذين ختمت حياتهم بخير.
وقد شرفت من إخوتي -وفقهم الله- لكل خير طوال تلك الفترة بأن أكون منسقاً لكل ما يخصك ومطلعاً على تفاصيل وضعك الصحي.
أما الصفة الثانية فقد كنت يا أبي مثالاً للزوج الصالح مع زوجاتك بداية مع والدتي -رحمها الله- ثم مع زوجتك الثانية -رحمها الله- ثم مع زوجتك الثالثة -أمدها الله بالصحة والعافية وأطال عمرها على طاعته- تعاملاً ورحمة وخدمة. وما موقفك مع والدتي -رحمها الله- حينما ذهبت بها عن طريق البر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة للعلاج أثناء حرب الخليج وقد توقفت الحركة الجوية تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر فلم يستطع في ذلك الوقت القريبون منك ثنيك عن رأيك وكنت تقول (لا أستطيع أن أرى أم أولادي تتوجع أمامي واستسلم للظروف فالميتة واحدة) فذهبت بها معتمداً على الله ونجح مسعاك بفضل الله أولاً ثم بنيتك الصادقة، وما إخلاصك مع زوجتك إلا دليل عملي وشاهد حسي على حسن عشرتك لزوجتك.
فهذا الموقف ما هو إلا قطرة من بحر وإلا المواقف كثيرة ومن عرفك عن قرب فإنه قد شاهد أو سمع عن تلك الصفة فأنت تعتبر الزوجة هي الصديق في الحل، الرفيق في الترحال، المستشار فيما يحتاج إلى ذلك.
فرحمك الله يا والدي رحمة واسعة وتغمدك بواسع رحمته وألهم أهلك وذويك ومحبيك الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وإنا عليك يا والدي لمحزونون. رب أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.