تزايد عدد المصابين بعدوى فيروس الكورونا حتى فاق الأربعمائة، وتوفي منهم حوالي 30%. وأثار هذا التطور قلقاً متزايداً على مختلف المستويات: مستوى المجتمع، ومستوى القيادة، ومستوى الإعلام. لم يكن غريباً إذن أن يسنّ بعض الكتاب ريَش أقلامهم لانتقاد وزارة الصحة، ولومها على ما صارت عليه الأمور.
وقد اختلف هؤلاء الكتاب فى تناولهم للموضوع؛ فمنهم من كان موضوعياً، ومنهم من كان متحاملاً، ومنهم من كتبوا بين هاتين الوجهتين. وكلهم تدفعهم الغيرة على البلد وأهله وصحته، وليس الرغبة في النيْل من وزارة الصحة. وليس مهمّاً الآن إبراز ما تناوله الكتّاب بخصوص تعامل الوزارة إجرائياً وإعلامياً مع الحدث منذ بدايته - خاصة بعد تولي معالي المهندس عادل فقيه زمام القيادة الصحية؛ وسوف يكتشف بنفسه - ولعله بدأ بالفعل - الأسلوب المناسب والعملي لاحتواء المرض وطمأنة الخواطر. أما الذي أود أن أشير إليه فهو ما تعلّق بدور وزارة الصحه في الخدمات الصحيه ومدى فعالية قيامها بهذا الدور. فقد لاحظت تبايناً في وجهات نظر الكتّاب حول هذا الدور وما اقترحوه لتطوير وزارة الصحة. فهناك من اقترح تفكيكها إلى فروع مستقلة في المناطق، ومن اقترح تحويل الخدمات الوقائية إلى مراكز مستقلة ترتبط بأعلى سلطة، بحيث تتفرغ الوزارة للخدمات العلاجية (!)، ومن اقترح خصخصة الخدمات العلاجية لكي تركز الوزارة على الخدمات الوقائية مع تغيير الكوادر العاملة بها، ومن اقترح إعادة هيكلة الوزارة وإبعاد العاجز والفاسد من طواقمها. وعموماً كان النقد موجهاً لوزارة الصحة برمّتها ولكوادرها وبيروقراطيتها، وأن القصور الحاصل في التعامل مع (الكورونا) هو من طبيعتها. ولم يرغب أحد في اعتبار ما كان كبوة في مسيرة جهادها الطويل ضد الأمراض الوبائية. وبعض الأمثلة تبيّن فعلاً أنها كانت تجاهد، وأنها كانت تنجح على الرغم من قصور الإمكانات أحياناً، وصعوبة اتخاذ القرارات أحياناً أخرى:
- حملات التطعيم ضد الجدري على مستوى البلد منذ عام 1369هـ وما بعده وإلزامية التطعيم قبل دخول المدرسة أثمرت القضاء على الوباء، فكانت آخر إصابة محلية هي التي سجلت عام1381هـ.
- استصدرت وزارة الصحة عام1399هـ من المقام السامي قراراً يربط استخراج شهادة الميلاد باستكمال التطعيمات الأساسية ضد (الدرن-شلل الأطفال-الكزاز-السعال الديكي-الدفتيريا)، ثم أضيفت تطعيمات أخرى فيما بعد. وارتفعت بذلك نسبة تغطية الأطفال المستهدفين بالتطعيم من 38% قبل 1399هـ إلى 86% عام 1410هـ، و 98% حاليّا. وخلت البلاد من شلل الأطفال منذ عام 1415هـ، وقاربت الخلوّ من الأمراض الأخرى.
ونقص معدل وفيّات الأطفال الرضع من 69 في الألف عام 1402هـ(مصلحة الإحصاءات العامة) إلى 8 في الألف عام 1434هـ (حسب البيانات الواردة على موقع البنك الدولي).
- قررت الوزارة عام 1406هـ منع استيراد الدم من الخارج، ومنع مشتقاته إلا بشهادة تثبت خلوها من فيروس الإيدز. وأجرت مسحاً استكشافياً على الفئات المعرّضة لخطر الإيدز، وشكّلت لجنة تشرف على برنامج مكافحة الإيدز من الناحية الصحية والنظامية والاجتماعية. وفي عام 1425هـ استصدرت الوزارة - بالتعاون مع وزارة العدل- من المقام السامي قراراً يُلزم بالفحص الطبي قبل الزواج للكشف عن أمراض الدم الوراثية، وعن الإصابة بالإيدز والتهاب الكبد الوبائي.
- كانت الوزارة تواجه تحدياً صحياً متمثلاً في تفشّيات الحمى الشوكية القادمة مع حجاج بعض البلدان تنتقل عدواها إلى داخل البلاد، فاتخذت عدة احتياطات لمنع تفشي الوباء هي:- اشتراط تطعيم الحاج - توزيع علاج وقائي - تنظيم حملات وطنية كل ثلاث سنوات قبل موسم الحج بأشهر. بل تمّ إيقاف تأشيرات الحج للقادمين من نيجيريا عندما تفشي فيها الوباء عام 1420هـ.
- بمجرد الاشتباه في ظهور إصابات بحمى الوادي المتصدع -المنقولة بواسطة المواشي- في جازان سارعت الوزارة بإرسال عيّنة مع مندوب إلى مركز مكافحة الأمراض بأطلانطا لتأكيد التشخيص، وفرقاً وقائية وعلاجية لدعم جهود صحة المنطقة والجهات الأخرى لحصر الوباء ومنع تسربه إلى مناطق أخرى.
- واجهت الوزارة تفشيات فيروس (سارس) التي انطلقت من الصين عام2003، وفيروس انفلونزا الخنازير التي انطلقت من المكسيك عام 2009، بأن اتخذت الاحتياطات الوقائية - مثل بقية دول العالم- التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية. وأذكر أني كنت في لندن عام 2009 فرأيت الاحتياطات المتخذة هناك، ثم وجدت أن الخطة التي وضعتها وزارة الصحة السعودية لا تقلّ- إن لم تكن أفضل- مما عُمل في بريطانيا.
هذه العيّنة من الأمثلة تبيّن خطأ الظن بأن الوزارة لم تكن تقوم بالاحتياطات اللازمة عند ظهور الأوبئة. فما الذي تغيّر حتى يهزأ بنا فيروس الكورونا؟ إن المرض في حد ذاته - وليس الفيروس - مستجد، وانطلقت أولى الحالات المكتشفة من داخل المملكة وليس من خارجها، ولم يسبق أن بلِّغ عن حالات مماثلة كما في التفشيات السابقة، فكان التعامل مرتبكاً ومتأخراً مع هذا المجهول الذي لا يُعرف من أين أتى ولا كيف ينتقل. وهذه نقطة ضعف تجاه الأوبئة المستجدة سبق للوزارة أن استشعرتها، فسعت قبل عشرين عاماً إلى إنشاء مختبر صحي وطني تجرى فيه الفحوص الفيروسية وغيرها، حتى أمكن ذلك بعد أن تبرع سموّ الأمير سلطان بن عبد العزيز -رحمه الله- بالأرض المطلوبة. وقد تم تنفيذه مؤخراً، فلعل تجهيزه وتشغيله لا يتأخران. وكذلك سعت الوزارة من خلال مجلس الخدمات الصحية منذ عام1429هـ إلى إنشاء مركز وطني لمكافحة الأمراض- على غرار المركز المماثل في أطلانطا- وقد وافق مجلس الوزراء عام 1434هـ على ذلك. إن تدعيم الأجهزة الوقائية بالوزارة بالخبرات والإمكانات الفنية والتقنية والمالية هو المطلوب وليس تغيير طواقمها، فهم جزءٌ من مجتمع موظفي الدولة، ليسوا بأفضل ولا أردأ منهم، ويخضعون من الناحية المالية والإدارية لنفس النظام البيروقراطي.
مطلوب أيضاً أن ينظر في دور وزارة الصحة ضمن إطار النظام الصحي العام بالمملكة، وفي ضوء ما رسمته الاستراتيجية العامة للرعاية الصحية التي أعدها مجلس الخدمات الصحية وأقرّها مجلس الوزراء في رمضان عام 1430هـ، وهذه أهم عناصر هذا الدور:
- مراقبة أداء ومخرجات المؤسسات الصحية.
- التركيز على الخدمات الوقائية والرعاية الصحية الأولية ومكافحة الأوبئة.
- متابعة الوضع الصحي عن طريق البحوث والإحصاءات وقياس المؤشرات الصحية، وضمان العدالة في توزيع الخدمات الصحية.
- وضع السياسات والأنظمة الصحية.
وللقيام بهذا الدور على أتمّه لا بد من تخليص الوزارة من الأعباء الكثيرة التي ألقيت على كاهلها فأثقلته مثل:
- قيامها بتمويل وتقديم الخدمات العلاجية- من مستشفيات ومراكز صحية وتأهيل طبي وعلاج للحجاج وعلاج في الخارج...إلخ.
هذه المهمة الثقيلة يمكن القيام بها بطرق أخرى منها: انتهاج أساليب تمويل جديدة للخدمات العلاجية مثل التأمين الصحي، وانتهاج أسلوب الإدارة الذاتية مع ميزانية مستقلة في المستشفيات الكبرى، وتفويض المناطق الصحية مسؤولية إدارة وتشغيل المستشفيات العامة والمراكز الصحية وربما اللجوء للتخصيص عندما يكون مجدياً.
- نتيجة لقيام الوزارة بتلك المهمة تحمّلت أعباء التوظيف والتعاقد والتدريب لآلاف الموظفين، كما تحمّلت أعباء إنشاء وتجهيز المرافق الصحية، وأعباء التموين الطبي.
وفي هذا السياق أشير إلى تأسيس الشركة الوطنية للشراء الموحد قبل بضعة أعوام بمرسوم ملكي وضرورة تفعيلها للقيام - وفق الغرض من إنشائها- بجميع عمليات شراء وتوزيع وتخزين المواد الطبية لصالح جميع القطاعات الصحية الحكومية.
إن تخليص الوزارة من أعباء التقديم المباشر للخدمة العلاجية وخدماتها المساندة من أجل أن تركز على دورها الحقيقي لا يمكن أن يتم بدون إصلاح النظام الصحي بأكمله؛ ففي هذا الإصلاح إجابة على السؤال التالي: إذا لم تقدم وزارة الصحة الخدمات العلاجية مباشرة وتشرف عليها، فمن سيقدم هذه الخدمات لجميع السكان، ومن سينظم استخدامها، ومن سيدفع تكلفتها؟