إن أعظم نعمة منَّ الله بها على عباده، نعمة الإسلام الحق، قال تعالى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}.. وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}.. وقال:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}.
لقد اشتمل هذا الدين على مقاصد عظيمة، وغايات نبيلة، تهدف إلى حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال وتحقيق المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وتسعى إلى تحقيق الأمن والاستقرار للأفراد والمجتمعات، وقد أكد الإسلام لزوم الجماعة والبيعة الشرعية والسمع والطاعة لولاة أمر المسلمين بالمعروف، والاعتصام بحبل الله جميعاً، ونبذ التفرق والاختلاف والانقسام والتشرذم، والتحزب والتعصب والإرهاب والتطرف.
أخي القارئ الكريم: إن من أعظم غايات الشريعة الإسلامية ومقاصدها، اجتماع الكلمة وتأليف القلوب بين المسلمين، لأنه باجتماع الكلمة وتأليف القلوب تتحقق مصالح الدين والدنيا، ويتحقق التناصر والتعاون والتعاضد. يقول سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) الحديث أخرجه مسلم.
وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}.. وقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}.. وقال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) متفق عليه.. قال رجل لابن مسعود -رضي الله عنه- كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخواناً. ولم لا يكونون إخواناً؟ وربهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة.
وتأكيداً لهذه القاعدة الكبرى، هيأ الشرع الأسباب التي تقوي بنيان الائتلاف، وتشد عضد الاجتماع، فصلاة الجماعة يتحقق فيها الاجتماع خمس مرات، والتراص في الصفوف، وتقارب الأجسام والأقدام والمناكب، والاجتماع الأسبوعي في يوم الجمعة، واجتماع سنوي في صلاة العيد، والزكاة التي تمثل التكافل الاجتماعي، ومعاني التراحم والتعاطف، وصيام رمضان الذي يوحد الأمة بأعماله في ليله ونهاره، والحج التقاء سنوي لأجناس شتى، من بلدان عدة، يلقى المسلم أخاه من أقصى الدنيا وأدناها، فيبادره التحية، ويعيش معه جلال الأخوة والمحبة.
وفي المقابل، فإن أعظم ما نهى الله ورسوله عنه، الفرقة والاختلاف قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.. وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم) رواه مسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) رواه مسلم.
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (الخلاف شر كله).
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: (أيها الناس، إن الذين تكرهون في الجماعة، خير مما تحبونه في الفرقة).
ولئن كانت هذه المعاني العظيمة واجبة على المسلم في كل وقت، إلا أنها متأكّدة الوجوبِ في أوقاتِ الشدائد والأزمات والفِتن، حفاظاً على حوزة المسلمين, وحراسة للملّة والدين, ووحدة البلاد، لأنَّ اجتماع الكلمة قوّةُ وعز، واختلاف الكلمة ضعفُ ووهن، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم إمامِ المسلمين وجماعتِهم. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية) رواه مسلم.
وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن، بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقه الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم قالوا يا رسول الله وإن صام وإن صلى، قال: وإن صام وإن صلى، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل، المسلمين، المؤمنين، عباد الله عز وجل) حديث صحيح أخرجه أحمد والترمذي.
ما أحوجنا إخوتي في الله، وبلادنا مستهدفة من أعدائها إلى أن نصفّي قلوبنا ونتآلف، ونتوحد ونكون يدًا واحدة مع ولاة أمرنا وعلمائنا. إن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، قلّ أن يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذلك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة لهم، تنتظم مصالح الدين والدنيا معاً، وفي التعدي عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا.
وقد عُلم بالضرورة من دين الإِسلام أنه لا دين إلاَّ بجماعة، ولا جماعة إلاَّ بإمامة، ولا إمامة إلاَّ بسمع وطاعة.
يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «فلا ريب أن الله جل وعلا أمر بطاعة ولاة الأمر والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه.. فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}؛ هذا هو طريق السعادة، وطريق الهداية، وهو طاعة الله ورسوله في كل شيء، وطاعة ولاة الأمور في المعروف من طاعة الله ورسوله، فطاعة ولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، فالواجب على جميع المكلفين التعاون مع ولاة الأمور في الخير والطاعة في المعروف، وحفظ الألسنة عن أسباب الفساد والشر والفرقة والانحلال، هذا هو طريق أهل الهدى وهو طريق المؤمنين، أما من أراد دفن الفضائل، والدعوة إلى الفساد والشر، ونشر كل ما يقال مما فيه قدح بحق أو باطل فهذا هو طريق الفساد، وطريق الشقاق، وطريق الفتن، أما أهل الخير والتقوى فينشرون الخير ويدعون إليه، ويتناصحون بينهم فيما يخالف ذلك حتى يحصل الخير ويحصل الوفاق والاجتماع والتعاون على البر والتقوى، إلى آخر كلامه رحمه الله. وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان، وأن يضبط الإنسان نفسه، وأن يعرف العواقب. وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة) إلى آخر كلامه رحمه الله.
أخي القارئ الكريم: إن البيان الصادر من وزارة الداخلية، حول المحظورات الأمنية والفكرية على المواطن والمقيم، والمتوج بالموافقة السامية الكريمة، جاء ليؤكد منهجية وسياسة هذه الدولة المباركة في فهمها الصحيح لتعاليم الشرع الحنيف الذي حث على لزوم الجماعة، ونبذ الفرقة ودعاتها، ومحاربة التطرف بجميع ألوانه، وحذر من التحزبات والانتماءات المخالفة لجماعة المسلمين وإمامهم، فالإسلام بشموليته وكماله وعالميته، أسمى من أن يختزل في مفاهيم حزبية أو مسالك طائفية.. قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
سئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- هل يجوز للعلماء أن يبينوا للشباب وللعامة خطر التحزب والتفرق والجماعات؟..
فأجاب فضيلته نعم، يجب بيان خطر التحزب وخطر الانقسام والتفرق، ليكون الناس على بصيرة لأنه حتى العوام ينخدعون، كم من العوام الآن انخدعوا ببعض الجماعات يظنون أنها على حق، فلا بد أن نبين للناس -المتعلمين والعوام- خطر الأحزاب والفرق لأنهم إذا سكتوا قال الناس: العلماء كانوا عارفين عن هذا وساكتين عليه، فيدخل الضلال من هذا الباب، فلابد من البيان عندما تحدث مثل هذه الأمور، والخطر على العوام أكثر من الخطر على المتعلمين، لأن العوام مع سكوت العلماء، يظنون أن هذا هو الصحيح وهذا هو الحق) انتهى كلامه حفظه الله.
ومما أكد عليه البيان أن العقيدة الإسلامية الصحيحة لا مساومة عليها ولا مزايدة بركوب موجات الإلحاد أو التشكيك في الثوابت.. فقد جاء في أول فقرة منه ما نصه: (الدعوة للفكر الإلحادي بأي صورة كانت، أو التشكيك في ثوابت الدين الإسلامي التي قامت عليها هذه البلاد، تعتبر جريمة يحاسب عليها). كما جرم البيان الولاء لدولة أجنبية، والسعي لزعزعة النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية.
لقد أقام هذا البيان الحجة، لاسيما وهو مفصل، فجرم الفعل والقول والتعاطف والتأييد بأي صفة كانت للتنظيمات أو الجماعات أو التيارات أو التجمعات أو الأحزاب، وصار بياناً تقوم به الحجة على من يخالفه، فيقع في دائرة التجريم المستحق للعقوبة.
ومع هذا فإن البيان قد منح الفرصة لكل من شارك في أعمال قتالية خارج المملكة بأي صورة كانت مهلة إضافية، مدتها خمسة عشر يوماً، ابتداءً من صدور هذا البيان؛ لمراجعة النفس والعودة عاجلاً إلى وطنهم.
وختاماً فإن هذا البيان جاء بلسماً للجراح، وصمام أمام، وطوق نجاة، وسيكون له بإذن الله أثره البالغ ومآلاته السديدة في إطفاء نار الفتن، والخروج من المحن، وحفظ أمن واستقرار هذه البلاد.
وإننا لنؤمل من الجميع التجاوب المشكور والتفهم المعهود لمضامين هذا البيان والالتزام به، وأن نكون يداً واحدة وصفاً واحداً مع علمائنا الربانيين وولاة أمرنا الميامين كما قال تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.