لا ينبغي الخلطُ بين (السلام) و(السَّلْم) بالسين المهملة المشدَّدة المكسورة، وبالسين المهملة المُشدَّدة المَفْتوحة أيضاً - وتأتي إن شاء الله مناسبة للفرق بينهما -؛ فالسلام سواء أكان خيالاً، أم كان دعوى حقيقةٍ إنما هي تَكَفُّلٌ بحماية أمْنِ الأُمم؛ لتعيش كل أمَّة آمنة من الإكراه على ما لا تريد،
والسِّلْم بالسين المُشدَّدة المكسورة يعني تنازل كلِّ أُمَّة عن استخدام ما أَعَدَّتْه من قوة لحماية نفسها، ولبثِّ عقيدتها ودعْوتِها؛ فهو تنازل مُؤَقت عن استعمال القوة، وهو بمقابل تنازل الآخر عن استخدام قوته أيضاً، وليس هو كفالةً بحمايةِ أَمْنِ الأمم؛ وإنما هو مُهادَنَة مُؤقَّتة يمتنع فيها كلُّ ذي قوة عن استعمال قوته، وأما الضعيفُ الذي ليس عنده قوَّة مكافِئة فهو في سِلْم (بكسر السين وسكون اللام، وفتح السين وسكون اللام أيضاً) خِلْقَة وواقعاً، وهو سِلْم مُؤَقَّت من غيره، وهو ينتظر مصيرَ أمْنِه لا حمايةَ أمْنه بعد المهادنةِ المُؤقَّتة من ذوي القوُّة، وليس له من الأمر شيئ إلا ما أَقَرَّه الإكراه العالمي؛ فإن أردتم مثالاً واقعياً حَياً ذكرتُ لكم إكراه الحريق العربي الإسلامي، فالعالَمان غنيمةُ حرب بعد الحربين الكونيتين في المرحلة التي سُمِّيَ فيها نفوذُ صاحبِ (غنيمةِ الحرب)، (استعماراً مباشراً)، وليس عندهم قوة مكافِئة تحمي مُلْكَ إرادتهم في صُنْع قرارهم الاقتصادي والثقافي.. إلخ.. ثم انزاح الاستعمار المُباشر في مِظَلَّة كرمٍ حاتمي من قِبَلِ الحلفاء الذين أعلنوا كل مبادئ السلم والسلام وحرية الأديان.. انزاح الاستعمار المُباشر مَظْهراً، وبقي مَخْبراً يرعاه أقزام التَّعَدُّدية من أبناء الأمة؛ لأن الاستعمار المباشِر ظل عيناً ساهرة تُراوِح بين قُوى التَّعَدُّدية، وتحصر فيها مباشرة الحكم والسيادة مشروطاً عليها أن لا يكون الحكم رَجْعَةً إلى هُويِة الدولة التاريخية والدينية قبل زرع التَّعَدُّدية؛ وذلك برصد مخصصات مالية للدعم، وبجيوش على أُهبة الاستعداد للتدخل في الوقت المناسب تحت أيِّ شعار سياسي تضليلي يُبيح التدخل.. وبقيت منابرُ الإعلام (لدى أصحاب الاستعمار المباشر سابقاً، ولدى أنماط التعددية داخل الأُمَّة) حرباً عنيفةً على كل دعوة إلى استعادة الهوية الدينية والتاريخية، وكان ذلك بأسلوب تضليلي يستهجن بمنطق تَقَدُّمي الرجعة إلى إعادة الهُويَّة، ويحكم عليها بأنها رجعية وتخلُّف، وكلُّ تَقَدُّمِيَّة واستشراف يَرْفُض العودة التاريخية إلى ما قبل العلم المادي.. وبقي هذا الإعلام يَنفخُ في بوق الانضواء إلى مُجْمَلِ الديمقراطية عقيدة وسلوكاً.. أي حُرِّيةَ الشبهات والشهوات.. ولم يهتم الاستعمار الذي كان في السابق مباشراً بنمطٍ محدَّدِ ثابت في التعامل مع أقزام من يلي الحكم من صنوف التعدُّدية؛ لأهدفه غير مُحَدَّد بنمط واحد، بل يشمل أنماطاً يحصل بها أو بأحدها الشتات والضياع للأمة الواحدة؛ فحينما يستلم الحكم ماركسيون إكراهيون يُعلنون العِدَاءَ والسَّحق للهوية، ويُرَحِّبون بالأُمَمِيَّة التي تجعل الولاء للفكر الوضعي في أي أرض، ولا تجعل الولاء للهوية التاريخية لأصحاب تلك الأرض: فإن السحق هنا مطلب نفيس للاستعمار الذي كان بالأمس مباشراً؛ لأنه سَيُضْعف الأمة بهلاك كوادرها البشرية، ودمارِ منشآتها، ومصادرةِ عناصر هويتها.. ثم يكون ممهداً داعياً لدور آخر يكون فيه المتنفِّد قائماً برخاوة مجمل الديمقراطية؛ فلا وزن لفكرٍ ولا لهوية ولا لتربية إصلاحية؛ وإنما الوزن لما كَفَل هُوِيَّةَ بهميةِ الأنعام بلا حاجز عن ممارسة الإباحية الشهوانية، وأن يكون حراً في عقيدته بلا وِصاية من أحد ولو دمَّر نفسه بِعَدَمِيَّة الهيبة الوجودية وما يلتحم بذلك على التوالي من الجنون والقلق والانتحار والانعزال عن حياة مُشاركةٍ مُنتجة.. وها هو الحريق العربي بالشرط الإسلامي، والحريق الإسلامي على صفائه يعيش كل هذه الأنماط من الشتات والصراع بين أصناف التعدُّدية التي لا يخرج نفوذ السلطة والحكم عنها، وكانت التعددية داخل الأمة أقدر على الوفاء بمطالب الاستعمار المباشر؛ فكلُّ مَن انقاد أو قِيْدَ على رغمه (أي كُرهٍ منه) للمشاركة في الحريق العربي والإسلامي لا يملك خلاصاً لنفسه ولا لأمته، ولا يجد في أُمَّته حفنة تملك الدفاع عن نفسها وهي على قلب رجل واحد، بل هي شِيَعٌ وأحزاب تملك كل مُقَوِّمات الفرقة، ولا تملك مقومات استعادة الهوية التاريخية بِشَرْطها المُعْتَدِّ به.. ولا يزال محتكرو دعوى الوعي والنُّخَبية إلى وقت قريب يزعمون أن العلاقة بين الأمة العربية والإسلامية في أرضها وبين الآخر المُـتَمَسِّك بقوته المادية في الاعتداء على كيان أُمَّتِنا علاقةُ نزاعٍ على الموارد الطبيعية والاستراتيجية، وأن الحرب الدينية خرافة، وأن المُتسلط الآخر لا يعنيه شيئ من أمور الدين؛ فإذا بالمتسلط اليوم بصريح العبارة كلمة مسموعة ومقروءة، وبصريح الممارسة بذبح المسلمين في أفريقيا بالسكاكين ذَبْحَ الشياه: يُرَسِّخ الحرب الدينية وأنها الأصل؛ فَخَسِأَ بعدها محتكرو النُّخبية، ولم يجدوا عاملاً غير (الحرب الدينية والأيديولوجية)، ووجدوا الأطماع التحليلية كالموارد والإستراتيجيات تأتي بالتبع لا بالأصالة، وتأتي لحفظ التوازن بين المُتنفِّذين.. ثموجدنا القانون الدولي المُراوِغ يبصق في إِلْيَةِ كلِّ واحد من صنوف التعددية؛ لأن ذلك القانون مراحل تخدير، فقد كان إعلان (روزفلت) الحريات الأربع قراراً حاسماً تنفيذاً لا ورقاً، فعصبة الأمم لها فاعِلِيَّتُها، وتدَخُّلُ دولة في شؤون دولة مُسْتَقِلَّة أو غزوها أمرٌ يُدينه المجتمع الدُّولي، وَ يُخَوِّله بسطَ نفوذه وقوته لحماية سيادة الدولة المُعْتَدى عليها؛ فماذا عداد مما بدا؟.. أصبح الاعتداء على الأديان قولاً حريةَ تعبير، وعدواناً باليد حُرِّية تغيير، وأصبحت معاقبةُ المعتدي غيرَ قانونية.. لقد كان أهل الأرض الإسلامية والعربية أيام هيمنة القانون الدولي يملكون حقوقاً سياسية بإجماع دُوَلي للمطالبة الدائمة بحماية حرية الدين من الاعتداء عليه لا بالقلم ولا باللسان كما يحدث في بعض دول الغرب من شتْم صفوة الخلق عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وسبِّ دينه مع أن المسلمين يضجُّون ويفزعون لو طال السَّبُّ أي نبي من أنبياء الله عليهم السلام كأحد أنبياء بني إسرائيل، بل وجدنا سبَّ الربِّ سبحانه الذي لا يجوز أن يرضى به أهل الأديان أو يتراخوا فيه، وهكذا الاعتداء باليد كإحراق المصحف وهدم بعض المساجد.. والنظام الدولي من أول نشأته وسعْيِه في التوازن العالمي منذ أصبح العالم أسرة واحدةً: كان دأبه تنظيماً قاطعاً وتطبيقاً مراوِغاً حولَ حماية الحقوق والحرمات؛ ووَفْق ذلك وُجِد مجلس الأمن ومحكمةُ العدل الدُّولية [قال أبو عبدالرحمن: النسبة إلى الجمع جائز، وهو مذهب الكوفيين، ومن عارضهم فليس له برهان يدفع مذهبهم]؛ وبهذا الحق التنظيمي يملك المسلمون الجهد السياسي في المطالبة بالعقوبات الرادعة؛ لأن كل اعتداء على ما أُجْمِع عليه من التنظيم يقتضي تشريعَ عقوبة رادعة.. وأما الحوار الدعوي بين المسلمين وأهل الكتاب فهو كما يجب أن يكون مُيسَّر بينهم أكثرَ من غيرهم؛ فيملك المسلم بالله ثم بعلمه وفكره وبيانه وخدمة بني أمته وخدمة كلِّ أهل الكتاب القدرةَ على توصيل صوته إعلامياً؛ فيمتلك اعترافَ أهل الكتاب ورضاهم بيسر؛ لأن في دينه وفي الأثارة الباقية من دين أهل الكتاب مشروعيةَ الجهاد الذي أذن الله به حال القدرة لبعض أنبياء أهل الكتاب السابقين مثل سليمان عليه السلام؛ فقد آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحدٍ غيره كالريح التي تجتاز مسافة شهرين في الغدوِّ والرَّواحِ، فرفض الشرك ودعا ملكة سبإ في اليمن التي تعبد هي وقومُها الشسَ.. دعاهم إلى الإيمان مُهدِّداً لهم بجنود لا قبل لهم بها، وهم ليسوا من أهل مملكته، ولكنه عليه السلام لا يمكن أن يرضى بالشرك على وجه الأرض وهو قادر على إزالته.. ويملك المسلم بالصيغ التي أسلفتها أن يُظْهِر من بشارات الرسل عليهم السلام في كتب العهد القديم والجديد (من نسخها الخطية، مع الخبرة باللغات التي دوَّنتها كالسريانية والعبرية والخط اللاتيني).. يستطيع بالله ثم بكل ذلك أن يتوصل إلى المُعْطى الصحيح من الأديان السابقة، وهو البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم باسمه وصفته واسم بلاده وقومه وصفتهم، وأن شريعته ناسخة، وأن طاعته واجبة؛ فسيلزم من ذلك قيام الحجة عليهم بمُقْتَضى أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على الناس بهذه الخصوصية وبخصَّيصة القرآن الكريم الذي كان مصدِّقاً لما بين يديه من كتب الله السابقة، مُظْهراً ما كان يُخفيه أهل الكتاب من حقائق دين الله، ولَنْ يَعْدم صادقاً مع دينه يحمل طرف الرداء.. بل المُعتدِي على القانون الدولي اليوم بالطعن في الدين يجد حمايةً آثمة من الآخَر كما في قصة سلمان رشدي.. وأما الاعتداء على سيادة الدولة فانظروا بعد ابتلاع العراق حالَ سوريا؛ فقد حُيِّد عنها أهل التركة العربية بالشرط الإسلامي، وافْترَعها الأغيارُ من الأعاجم والروس ولا نفوذ دولياً، أو لا نِيَّةَ في استعمال النفوذ الدولي لمنع الاعتداء على سيادةِ الدولة؛ فبربكم هل هذا القانون الدولي ضَرْبَةُ لازب عن تعاهد وتعاقد دائم على المنع من الظلم، وأداء الحقوق.. أو أنه مراحلُ مراوِغة تنتهي بتقاسم المكاسب لحفظ التوازن بين أهل النفوذ، ويبقى للعربي والمسلم في أرضه وتركته الفراغُ من كل إيجابية تحميه من التبعية وشتات التعددية؟!.
قال أبو عبدالرحمن: إن المآسي مهما عَظُمَتْ تهون أمام غَبْننا في عقولنا، وفتنتنا في غياب فكرٍ رشيد يجمع لنا أمة نركن إليها؛ فتكون في حماية الله بدفع الناس بعضهم ببعض، أو يُقَدِّرُ الله لها من جهد أبنائها ما تملك به الدفاع عن نفسها، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله مع أجزاء من هذا الهمِّ الخانق، والله المستعان، وعليه الاتكال.