قصة الرحيل عن هذه الدنيا برنامجٌ لا يتوقف فهي خاتمة الرحلة الإنسانية التي نغشاها كل يوم، ونفقد خلالها حبيباً وقريباً وعزيزاً وما يبقى هو صلواتنا لحسن المآل لهم، ولكنّ بعض الشخصيات في جيلنا كان المجتمع يقلق قبل رحيلهم من ساعة غروب لا يجد فيها أرواحهم ترفرف على الناس والمجالس، ومن هؤلاء الشيخ والرائد الاجتماعي الوالد عبد الله بن إبراهيم المبارك - رحمه الله -.
وإن كانت هذه المقدمة مدخلاً لفيض عاطفة لا أتكلفه، فهو كما قلتُ والدٌ وراعٍ ومربٍّ وحاضنٌ اجتماعي لمدينة وأقوام، وليس لأُسرته وحسب، إلاّ أني سأركز على الترجمة المعرفية به وبشخصيته، ومن المهم جداً أن أشرح للقارئ الكريم معنى هذا الشعور والصدمة والحزن الذي اكتست به الأحساء لرحيله صباح الاثنين الماضي، فالشيخ المبارك كانت له مدرسة خاصة في مجلسه، يُخيّل لكل من يزوره أو يزور الأحساء ثم يقصده أنه يعنيه بالملاطفة والاعتناء الخاص، وهي جزء من شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم أكرم الله بها الشيخ ليقتدي بنبيه.
إنّ من أهم محطات ترجمة الوالد الشيخ عبد الله المبارك هي التساؤل عن سر اجتماع الناس من حوله ومودتهم له ومودته لهم، وكيف كانت تصنيفات الطبقات والشرائح تغيب كلياً عن برنامج عبد الله المبارك لتواضعه لكل الناس، لقد كان الشيخ، وهو أحد أبرز زعماء تميم الممتدة من حائل ونجد إلى الأحواز، في قمة التواضع والتلطّف ليس لمجتمعه فحسب بل لكل النّاس وبكل جنسياتهم، وكأنه يرسم معنى السيادة في خلق الود والتواضع لعشرات بل مئات الوفود كل عام على مجلسه.
كان يتخصص الداخل والغريب فيَدخل عليه فيما يعرفه ويألفه فتزول منه كل وحشة، ثم يرعاه بسلوك تربوي أبوي يشعر معه الضيف أو الزائر أنه يعرف عبد الله المبارك من عقود، والشيخ ذو التجربة الواسعة والموسوعية في الصداقات ومعارف الرجال، لم يكن لأي ذي فكر أو تيار أو انتماء مساحة يستوحش فيها مجلسه، بل يشعر أن عبد الله المبارك يفهم ثقافته ويتفهّم توجهه وافقه أم خالفه، ويُدير الحديث حيث يؤنس الزائر وهو يتخلل القاصدين من ذوي الثقافة العالية أو البسيطة، كلهم لهم حظٌ في مجلس عبد الله المبارك كما هو حال الشرائح الاقتصادية من فلاح وعامل إلى رجل أعمال.
الشيخ التسعيني عبد الله المبارك هو أصغر أبناء العلاّمة الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف المبارك، أحد أبرز علماء المالكية ومدارس التربية الروحية في الخليج العربي، ومع أن الشيخ عبد الله قد طاف به وطافت به عهود العلماء، إلاّ أنه انطلق الى معرفة الفكر العربي الحديث وتواصل معه ومارس مبكراً منهجية الانفتاح العروبي والوحدة الاجتماعية الوطنية مع مناطق المملكة، في شبكة علاقات واسعة بدأها من الظهران، حيث كان المدير الإداري العام لمحاكم المنطقة الشرقية ومنزله فيها، فكان منزله في الظهران كما هي علاقاته مع القضاة والموظفين جسراً حيوياً، خلق فيها الشيخ مدرسة التعدد والتواصل مع المجتمع الوطني السعودي، وكان فيها شمعة ومعهداً لأصدقائه.
كان الشيخ عبد الله المبارك ينتهج فكرة العروبي المحافظ المعتدل الذي يتبنى قضايا الأمة ويدعم أفكار الإصلاح والتطوير الوطني والاجتماعي عبر وعيه الإسلامي ذي التدين الهادئ والمعتدل، وكانت له علاقات حيوية وودية عميقة مع من يحمل الهم الوطني لصناعة الحقوق والتنمية أو يحمل الهم العربي الكبير، لكن لمسلك الشيخ بصمة خاصة جعلت قناعاته دائماً في مضمار الهدوء والرفق والتعاطي المتزن مع الفكرة، فشرّع في حياته فكرة التواصل مع المسؤول والإصرار عليها لاكتساب الحقوق التنموية، وقد كثف طوال عمره هذا البرنامج حتى تحقق له مدخلاً لذلك في بعض ملفات التنمية للأحساء التي أحبها وأخلص لها وشرِق بها وهي اليوم تشرق عليه دمعاً وحزناً.
ولم تتراجع فكرة المشروع العربي لدى الشيخ المبارك لكنه اشتغل بتنظيم العلاقات الاجتماعية الوطنية شعبياً ولم ينخرط في أي عمل سياسي، وبقيت للوالد مداراته الفكرية وآراؤه وبقي مجلسه يجمع ذوي الهموم مع ذوي العلاقات الاجتماعية المتنوعة، في حياة الشيخ عبد الله كان يُصّر على تصحيح منهج التدين الذي يلتزم بمظهر معيّن، ولكنه لا يُلزم نفسه ولا مؤيديه بالتدين السلوكي الذي عُمدته الأخلاق.
عند الشيخ عبد المبارك مسار محدد للتدين الرشيد وهو القيام بحقوق الله وإنصاف الناس وحسن التعامل معهم وإكرامهم والتواضع لهم ورفض كل فحش في القول أو العمل، ويكره كثيراً الشدة والتطاول والبأس على الناس في الحوار والخلاف.
ولأني ابن صديقه الخاص كان يصارحني بالتشديد على هذه المسارات والتزامها والتسامح مع آراء الناس، وكان يعرض لي الأمثال الموثقة في تجربة حياته عن قصص التدين المزيف الذي يأكل حقوق الناس ويعظهم في شؤونهم الشخصية وهو يخون أماناتهم، وهذا المفصل بالذات كان ضمن تشكيل شخصية ومنهاج التدين الرشيد لدى الوالد الشيخ عبد الله المبارك، وأرجو أن يكون قد قرةت عينه بابنه وبابن صديقه في أحاديثنا في سنواته الأخيرة المباركة، حين شعر أنني استقي من مدرسته وفهم منهجنا الفكري المتحد ورأيت البِشر بين عينيه رضي الله عنه.
يُمثّل عبد الله المبارك أحد أهم أركان النظام الاجتماعي في الأحساء وهذا قبل توليه عمادة الأسرة بعقود، والذي يحافظ على علاقات مودة للشرائح الاجتماعية والشخصيات والمجالس والعلاقة بين الطائفتين، كما أن الشيخ عبد الله المبارك مد علاقاته وجسورها بمنظومة ربط حيوية أعادت تشكيل العلاقة الاجتماعية والقربى بين نجد والأحساء، وهذه محطة مهمة للغاية فيما يسمّى الرابط الاجتماعي للوحدة الوطنية لمناطق المملكة.
وكانت زعامته ضمن شخصيات قبيلة تميم لا تقف عند العرف القبلي على الإطلاق، بل تمد الجسور بكل مودة وتواضع للجميع لا فرق عند الشيخ عبد الله المبارك بين عرب القبيلة وعرب الحاضرة بين عينيه وخلقه ومجلسه، لكنه أضاف لزياراته بعداً حيوياً لهذه الملتقيات، ومن بابٍ آخر كان الشيخ أبو إبراهيم معهداً لوفود أهل الساحل أي دول الخليج العربي، فكان بحد ذاته ومؤسسة أبنائه وكرم ماله مشروعاً وحدودياً اجتماعياً رائعاً في هذا الزمن.. أقولها والألم يعصرني لا يُظن أن يوجد مثله.
ولعل من أبرز صفات الشيخ عبد الله المبارك تمتعه بصفتين قياديتين في المجتمع وهما الحكمة والحلم وحين يحسم الأمر ينهيه، وهو ما جعل الوالد الشيخ مظلة لحل مشكلات في العلاقات أو المواقف في منظومة الأحساء الاجتماعية ومحل قصد لتسويتها ولا يتأخر في البذل لها وكأنه أحنف بن قيس هذا الزمان - رحمه الله -.
وكل ما ذكرتُه عنه مسار ومسار عبد الله المبارك يد الكرم التي لا تكلّ ولا تملّ تعجز الضيف من حشد إحسانه ولا تكل يد الشيخ عبد الله المبارك والشهم الذي يحسم الموقف بإحسانه, وهنا لست أضعُ توصيفاً عاطفياً بل إني اعرض لبرنامج من الضيافة والموائد في مزرعته لا ينقطع، أما الإحسان ومواساة الأقرباء والبعداء، أما تلطفه للصغار والكبار من محبيه وأقاربه بتوزيع نتاج مزرعة أم فريش من الرطب والورد الأحسائي وغيره فحدث ولا حرج، الله يعلم أنني أقف ولم أستوف الوالد الشيخ عبد الله المبارك حقه ولم أُكمل ترجمته، سوى أنني وأنا أُعزي أخوي د. إبراهيم والوليد وشقيقاتهم وهاشم وسهيل وكل أُسرة المبارك وأُعزي نفسي وأهل الأحساء والخليج العربي، لأدّخر في ذلك مقام الله للمحسنين من أمثال سيدي الشيخ عبد الله المبارك، فكيف حين يفِد اإيه عبده وقد سبقت شهادة الناس في كرمه وإحسانه فما عسى مولانا الأعز الأكرم أن يجازيه إلا ما هو فوق حسابنا وفوق ما نؤمل ونرجو.. فوداعاً يا سيّد المروءة في زمننا وإنما نحزن من وحشة صدورنا بعدك وضيق مجالسنا الواسعة دونك.