الحسد مرض من أمراض القلوب التي لا يسلم منها إلا من سلَّمه الله تعالى ووفقه، والقلب الذي يكون فيه داء الحسد هو قلب مريض، وإذا كان القلب سالماً من الحسد ومن سائر الأمراض القلبية الأخرى كالكبر والغرور وحب الشهوات المحرمة ونحو ذلك، كان هذا القلب هو القلب السليم الذي مدحه الله تعالى بقوله: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سورة الشعراء (88-89)، فالقلب السليم هو القلب الصحيح الذي سَلِمَ من أمراض الشهوات المحرمة، ومن أمراض الشبهات والشكوك في دين الله تعالى.
وأما القلب المريض فقد ذكره الله تعالى بقوله: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ (32) سورة الأحزاب أي مرض الشهوة المحرمة، وذكره في موضع آخر بقوله: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً (10) سورة البقرة، أي مرض الشبهات والشكوك في الدين، فثبت بذلك أن الله تعالى قد ذكر جميع أمراض القلوب التي منها الحسد، ثم ذكر تعالى بفضله ورحمته الدواء الشافي من جميع أمراض القلوب والتي من أخطرها وأضرها داء الحسد.
إذا ثبت هذا فإن هذه المقدمة هي أول ما ينبغي معرفته للتوصل إلى معرفة أسباب الحسد وطريق التخلص والشفاء منه، وإيضاح ذلك أن السبب الأول في وقوع الحسد من الإنسان هو بُعده عن الله تعالى، فإن القلب القريب من الله تعالى يكون قلباً صحيحاً سليماً، ومتى ابتعد العبد من ربه صار القلب مريضاً بسبب هذا البعد، فتحصل له هذه الأمراض والتي منها الحسد المذموم، وأيضاً فإن الحسد ينشأ من حب النفس، وكراهية الخير للآخرين؛ كمن سمع بأن أحد الناس أصابته نعمة ما فيحصل له ضيق في صدره بسبب أنه لم يؤت هذه النعمة ثم ينتقل بعد ذلك إلى تمني زوال هذه النعمة عن هذا الرجل ويكره حصولها له فيقع في هذا المرض المذموم الذي ذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن القاعدة العامة في أسباب الحسد هي: (قلة التقوى)، فإن العبد التقي يعلمُ أن الله تعالى يقسم الأرزاق كيفما شاء ويعطي مَنْ يشاء من عباده برحمته وحكمته البالغة، فيحصل له الرضا والقناعة بما قسم الله له، ويعلم أن حسده لأخيه المسلم من المحرمات فيكفّ نفسه عن الحسد، ولو وجد شيئاً من الضيق في صدره فإنه لا يضره ذلك، طالما أنه يجاهد نفسه في دفع حسده عن الناس، فهذه هي القاعدة العامة في سبب حصول الحسد (قلة التقوى)، وأما عن الأسباب التفصيلية فهي كثيرة؛ فمن ذلك مثلاً:
- الغيرة من الأصحاب أو الأقارب ونحوهم، فبسبب الغيرة المذمومة يقع الإنسان في الحسد المحرم، وهذا هو الغالب في وقوع الحسد من الناس بعضهم لبعض.
- ومن ذلك أيضاً الحقد على بعض الناس، كمن يكره رجلاً ما سواء كان قريباً أو جاراً أو نحو ذلك، فبسبب كراهيته لهذا الرجل يحسده على ما آتاه الله من النعمة، ولاسيما إذا كان هو محروماً منها.
- ومنها أيضاً الكبر والعُجْبُ، فبسبب الكبر يقع الحسد كثيراً من الناس، بل إن إبليس عندما كفر بالله واستكبر عن السجود لآدم عليه السلام كان منشأ كفره واستكباره هو أنه حسد آدم على هذه المنزلة العظيمة التي وهبه الله إياها، فاستكبر عن السجود حسداً لآدم عليه السلام؛ كما قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (ص: 75-76).
- ومن الأسباب أيضاً حب النفس وتمني الخير لها دون الآخرين.
- منها أيضاً الجهل بحكمة الله وقدره وشرعه في توزيع الأرزاق وقسمتها بين الخلق.
والمقصود أن هذه الأسباب على تنوعها وكثرتها ترجع إلى سبب واحد وهو (قلة التقوى)، أو انعدامها، ولذلك كان القلب المعمور بتقوى الله أبعد القلوب عن الحسد وعن هذه الأمراض الرديَّة المذمومة جميعها، فكلَّما كان العبد تقياً كان أبعد عن الحسد وعن أمراض القلب عموماً.
وأما طريق التخلص من الحسد فيمكن تلخيصها في هذه الخطوات:
1 - الاستعانة بالله، وسؤاله والتضرع إليه والتوكل عليه في الشفاء من هذا المرض المذموم؛ كما قال تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) أي: إذا أهمه أمر ما فزع إلى ربه يرجوه ويسأله ويستعين به.
2 - التعرف على حقيقة الحسد، وأنه خلق مذموم، وذنب عظيم، ومعصية توجب التوبة إلى الله والإنابة إليه من هذا الذنب، بل إن الحسد في الحقيقة هو اعتراض على حكم الله لأن الحاسد إنما يكره أن يُصيب الخير غيره، ويتمنى زوالها عن المحسود، وهذا عند التأمل هو بغض لما أراده الله وقدَّره، ولذلك أشار تعالى إلى أنه هو الذي يؤتي من فضله من يشاء بعد أن ذكر حسد الحاسدين، كما قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ (54) سورة النساء.
3 - أن يعلم العبد أن الحسد نوع من الظلم، بل هو ظلم بالغ شديد، فإن الحسد ظلم للنفس وظلم للمحسود بإدخال الضرر عليه، بل إن الحسد نقص في الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ومن المعلوم أن الحاسد يبغض حصول النعمة أصلاً لأخيه، فضلاً عن أن يحب له ما يحب لنفسه، فإذا عرف العبد أن الحسد نوع من الظلم، حصل له نفور من الظلم وابتعاد عنه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة).
هذا بالإضافة إلى ما يصيب الحاسد نفسه من الهم والغم والعذاب بسبب حسده الناس، فإن الحاسد أول ما يؤذي فإنه يؤذي نفسه، لكثرة ما يصيبه من الألم والضيق عند حصول النعم لعباد الله، مضموماً إلى ما يتعرض له من مَقت الله وغضبه وما قد يصيبه أيضاً من العقوبات في الدين والدنيا، فإن الجزاء من جنس العمل، كما هو مقرر من دين الله تعالى.
4 - ومن الأسباب أيضاً أن الإنسان إذا خاف أن يحسد مسلماً على نعمة فإنه يدعو له بالخير والبركة، كما ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليبرِّك عليه) أي فليدع له بالبركة، وهذا السبب من أعظم ما يدفع شر الحسد، ومن أعظم ما يعين على التخلص من هذا المرض، فإن الإنسان متى ما عوَّد نفسه الدعاء للمسلمين اعتادت نفسه حب الخير لهم وكراهية مضرتهم.
5 - ترك التفكر وعدم الانشغال بالنظر إلى النعم التي عند الآخرين، والإعراض عن ذلك، بل إن في التفكر بما أنعم الله عليك خيراً وفائدة لك، فإن تذكر نعم الله على النفس تعين على الشكر، وفي كثرة تطلعك إلى ما عند غيرك ضرر عليك؛ لأنك ربما يقع لك الحسد، أو على الأقل عدم شكر نعمة الله عليك، وازدراء نعمه، ولذلك قال تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) سورة طه.
6 - ومن الأسباب بذل الخير للناس وإعانتهم على تحصيل المنافع لهم، فإن هذا مضادٌ للحسد ومخالف له، ومن المعلوم أن الذي ينفع الناس ويعينهم مأجور على ذلك مع كونه يصير بهذه الإعانة محبوباً إلى الله تعالى، فإن الإحسان إلى الخلق من أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ كما هو معلوم، ولاريب أن الذي يتخلق بهذا الخلق يكون مندرجاً في قائمة المحسنين الذين قال الله تعالى فيهم: وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران:134)، وقال تعالى فيهم أيضاً: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
7 - الاهتمام بعيوب نفسه ومحاولة التخلص منها وعدم الانشغال بالآخرين.
8 - أن يسأل الله من فضله الواسع وخيره العميم ، قال الله تعالى (واسألوا الله من فضله)
9 - أن ينظر إلى من هو دونه لا إلى من هو أعلى منه.
وأخيراً أسأل الله تعالى أن يؤتي نفوسنا تقواها، وأن يزكيها فإنه خير من زكَّاها، وأن يُقَنِّعنا بما رزقنا، ويمتعنا به، واعلم أخي الحبيب أن الدنيا أحقر من أن يحسد ويعادى على شيء من حطامها الفاني، وتذكر دائما قول رسولنا الكريم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء»، وأن الآخرة خير وأبقى، فاعمل للباقية ولا تلهث خلف الفانية، فتبيع آخرتك بدنياك، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها».