كان رجلاً من أسرة علم وتقوى ومعرفة، وفوق ذلك كان - رحمه الله - رجلاً بيِّناً بين الرجال، طويل القامة، حاد الملامح، عيبه الصدق الذي أصبح عيباً في نظر البعض.
ذلك الرجل هو ناصر بن سليمان العمري.
ليس بين منزلي ومنزله سوى ما بين المئذنة والمحراب. أعرفه معرفة الجار للجار. كتب القصة القصيرة والشعر والمقال الصحفي، وقام خطيباً. كان - رحمه الله - شوكة في عين الطغاة، لا تأخذه في الحق لومة لائم.
لا يتردد في إبداء رأيه، ولا في الرد على من يتطاول على الناس وحقوقهم، ولا يحسب لذلك أي حساب. حر، متمرد على زمنه.. رجل يكره الذل والهوان كرهه للطغاة والمتجبرين والخونة وإبليس، وكان لسان حاله في بعض المواقف يقول ما قال البارودي:
خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة
علي يدا أغضي لها حين يغضب
أو كما قال هاشم الرفاعي:
كل الذي أدريه أن تجرعي
كأس المذلة ليس في إمكاني
كان يأتي للمسجد يوم الجمعة قبل الخطبة بساعة أو تزيد، ويقرأ من كتاب الله، يهمس في قراءته، لكن تردد موجات صوته الحديدي تدوي بين جدران المسجد، وترتد صدى كصوت صليل السيوف.
كنت أزوره - رحمه الله - قبل أن تعتل صحته كلما أراد الله، فكان يتذكر الماضي ويذرف عليه دموعاً ساخنة، ويندم على ما صار إليه الحال من تردٍّ.
يستعيد - رحمه الله - ما كان عليه الناس من صدق المعاملة وإخلاص في العبادة وتلاحم بينهم، لا فرق بين فقير وثري، ولا بين بدوي وحضري.. يوم كان الناس لبعضهم يداً واحدة بنياناً مرصوصاً.
ذلك الرجل الذي طعن في السن وترك وراءه عقوداً من الزمن، ترك وراءه الكثير من الذكريات التي لا بد أن تكتب، وترك وراءه آمالاً لم يسعفه زمانه بتحقيقها، وترك وراءه ذكرى عطرة لرجل كان مهاب الجانب، وقد ترك أبناءً كراماً، أرجو أن يحققوا شيئاً مما كان يأمله.
هناك الكثير، لكنها خاطرة خطرت، لعلها تذكرة لمن لديه معلومات عن سيرة هذا الرجل الكبير فيكتب عنه.
إنه رجل أتشرف بمواقفه التي سمعت عنها، والتي تدل على شخصية الرجل الحر الشهم الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم.
(رحمه الله وأسكنه فسيح جناته).