المواطن هو المواطن في كل بقعة في العالم، يستهويه أحياناً الإصغاء إلى حوار في فضائية، أو مطالعة مقال في صحيفة، يشده بقوة تصريح المسؤول فيتابعه، فإن وجد فيه سراء شكر وانتظر التنفيذ، وإن وجد فيه ما لم يسر عاد سيرته الأولى، فألقى جميع ما قرأ وشاهد وسمع خلف ظهره، وجلس على أرض محنته ينتظر الحلول، الحلول وحسب، وليس التحليلات أو التفسيرات أو التصريحات. ينطبق هذا كثيراً على حال المواطن السعودي وهو يتابع شريط الأخبار والتصريحات واللقاءات حول مسكنه المنتظر، ذلك الحلم القديم الجديد الذي أكّدت دراسة نُشرت حديثاً أن نحو 60 في المائة من السعوديين لم يقبضوا على شيء منه سوى الأحاديث.
ولعل السؤال الرئيس الذي يذهب جميع الأسئلة ويأتي وهو مستقر خلف علامة استفهام عملاقة. لماذا لا تتوافر الأراضي اللازمة والكفيلة بحل هذه الأزمة متى ما توافرت على الرغم من امتداد مساحات الأراضي الفضاء في بلد كالسعودية.
نظرة سلبية
ويؤكد عقاريون ومهتمون بالشأن العقاري أن أزمة الإسكان التي تواجه المدن الكبيرة في المملكة مثل الرياض وجدة والدمام ترجع في جزء كبير منها إلى الأراضي البيضاء التي تقدر بنسبة كبيرة داخل هذه المدن تتجاوز في بعضها 40 في المئة من مساحة هذه المدن.
وبينما تسعى وزارة الإسكان جاهدة لإقامة مشروعات سكنية جديدة في إطار تنفيذ مشروع حكومي يقضي بإنشاء 500 ألف وحدة سكنية، لا تزال نسبة كبيرة من شرائح المجتمع عازفة عن التعاطي مع مثل هذه المشروعات بنظرة تفاؤلية بسبب الصورة القاتمة التي رسمتها أزمة الإسكان وغياب الخطط والحلول الإبداعية لهذه الأزمة، والتي انعكست بدورها على طريقة تفاعل المجتمع مع أي مبادرات في هذا الخصوص حتى وإن كانت نتائج مثل تلك المبادرات تحمل الشيء الكثير من الإيجابية في المستقبل.
تصحيح الأسعار
ويعزي عقاريون أزمة الأراضي في جانب منها إلى قلة توافر الأراضي المتاحة للتطوير والتي لم تكتمل فيها الخدمات مع ارتفاع أسعارها، مشيرين إلى أن تدفق الاستثمارات للمضاربة في بيع وشراء الأراضي خلال الأعوام الماضية أسهم في ارتفاع الأسعار بشكل غير مبرر في بعض المناطق، ما يستلزم ضرورة تصحيح للأسعار في ظل الارتفاعات الكبيرة في المناطق البعيدة وغير المخدومة.
وتشير الإحصاءات في مدينة الرياض وحدها -على سبيل المثال- إلى أن مساحة الأراضي البيضاء المخططة وغير المخططة نحو 70 في المئة، ما يعني أن تصحيح الأسعار سيساعد على عودة التوازن بين كمية العرض والطلب ويؤدي بالتالي إلى دعم الشركات العقارية المطورة بهدف المساهمة في عملية توفير الوحدات السكنية المناسبة للفئات المختلفة.
احتيال
ولا يخلو الأمر من تحايل بعضهم سعياً لمضاعفة رؤوس أموالهم حتى ولو على حساب مواطنين تتضاءل فرصة حصولهم على سقف يظلهم مدى الحياة، ففي الآونة الأخيرة كشفت لجنة مختصة في جدة عن وجود نحو 50 في المائة من الأراضي الواقعة داخل النطاق العمراني غير مطورة وما زالت بيضاء ولم تتم الاستفادة منها في حل مشكلة الإسكان، مشيرة إلى أن نحو 30 في المائة من تلك الأراضي والمملوكة بمساحات كبيرة تعود لأفراد من أسر تجارية عقارية ومعظمها غير مسجل ضمن أصول الشركات للتحايل على دفع رسوم الزكاة. ما جعل خبراء العقار يؤكدون أن فرض الرسوم التنظيمية على الأراضي البيضاء بات أمراً ملحاً، خاصة في ظل إمكانية التحايل على نظام الزكاة بادعاء عدم وجود تلك الأراضي ضمن عروض البيع.
كما ذهب مختصون إلى أن تلك الرسوم التي يرون ضرورة فرضها على ملاك الأراضي البيضاء، يجب أن يخصص الجزء الأكبر منها لإنشاء المساكن لغير القادرين الذين لا يمكن لهم حتى وإن حصلوا على قرض عقاري على سداده.
الرسوم هي الحل
وفي الوقت الذي ما زال فيه مجلس الشورى يناقش موضوع إقرار الزكاة على الأراضي البيضاء، أكد عقاريون أن مثل هذه الإجراءات ستزيد من المضاربة في مثل هذه الأراضي، ويقول المتخصص في التخطيط العمراني فهد الصالح: «إنه في حال تم إقرار الزكاة على الأراضي البيضاء، فإن ذلك سيحجم من المضاربة على الأراضي البيضاء لحد كبير، لأن ذلك سيجعل المضاربين بالعقار -وهم يمثلون شريحة كبيرة من محتكري الأراضي- يقومون بتصريف الأراضي التي يملكونها، وهذا سيوفر معروضاً أكبر من الأراضي يفوق الطلب، وبالتالي إمكانية انخفاض الأسعار لوفرة العرض، ومع ذلك يجب أن يواكب قرار فرض الزكاة قرارات مساندة تحد من عمليات المضاربة والتداولات العقارية خصوصاً في المرحلة الأولى من إقرار فرض الزكاة، لأنها ستشهد عمليات تداول وبيع وشراء كبيرة من قبل المتعاملين في سوق العقار».
وأكد الصالح أن فرض الزكاة على الأراضي البيضاء سيعمل على خفض الأسعار لاسيما الأراضي التي تقع داخل النطاق العمراني للمدن، لكن ستبقى فئة من بعض ملاك العقار ورجال الأعمال لن يؤثر القرار عليهم، إذ إن ما سيدفعونه للزكاة سيضيفونه على قيمة الأرض وبالتالي سيرفعون من أسعار بعض الأراضي، لافتاً إلى أن هنالك فئة أخرى يجب التنبه لها ستعمل على التحايل والتلاعب على النظام للتهرب من دفع الزكاة.
من جانبه قال الخبير العقاري عباس آل فردان: «لاحظنا في الآونة الأخيرة لجوء بعض ملاك الأراضي ذات المساحة الشاسعة خارج النطاق العمراني إلى تحويلها إلى قطع صغيرة تباع بأسعار رخيصة، هروباً من دفع الزكاة في المستقبل» ويضيف: «القرار سيعمل على استثمار الأراضي الواقعة داخل المدن ومعرفة الأراضي غير المملوكة داخل النطاق العمراني، حيث إن عدداً كبيراً من مناطق المملكة تضم عدداً كبيراً من الأراضي البيضاء داخل نطاقها العمراني غير مستفاد منها، ما زاد من ارتفاع أسعارها مع النهضة العمرانية التي تشهدها تلك المناطق، إذ إن أسعار المتر لتلك الأراضي البيضاء داخل المدن الرئيسة كادت تصل أسعارها مثل الأرضي المخدومة. ومع تطبيق القرار ووضع آلية محكمة لتنفيذه سنجد تراجع بعض الأسعار في بعض المناطق يتراوح بين 10 إلى 30 في المائة، وذلك بحسب موقع الأرض البيضاء لكل منطقة، وقد يزيد أو يقل عن ذلك». وأضاف: «القرار سيقضي على بعض ظاهرة احتكار الأراضي ذات المساحات كبيرة من الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني وخارجه».
فك الاحتكار
وأكد عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول الدكتور خالد المزيني اجتماع الفقهاء على منع الاحتكار، بقصد استغلال حاجة الناس وإغلاء الأسعار بغير حق وبما يرهق عموم الناس، موضحاً أن واجب الولاية العامة إذا وقعت المغالاة في العقارات أن تتخذ التراتيب الجبرية المانعة من ذلك، وأضاف: «وهذا المعنى متحقق في امتناع هؤلاء التجار من بيع الأراضي بسعر مناسب بحيث يشمل سعر التكلفة مضافاً إليه الربح المعقول، فإن الضرر الحاصل بهذا الامتناع أعظم وأعم من احتكار بعض الأقوات التي يكون للناس مندوحة عنها، فتحريم هذا التصرف إما أن يكون داخلاً في عموم النص الناهي عن الاحتكار، أو يكون من باب قياس الأولى، لأن المعنى المنهي عنه أظهر فيه من صورة احتكار بعض الأطعمة، فحبس الأراضي مع العلم بحاجة الناس إليها ضرار ممنوع بالنص أو هو في معنى المنصوص، وهذا مدرك من مدارك التحريم المعهودة في الشرع، فكل من منع ما يحتاج الناس إليه حاجة عامة فقد وقع في المحظور، والحال أن حاجة الناس إلى السكن من جنس الحاجات العامة التي تنزل منزلة الضرورة كما هو مقرر في قواعد الفقه».
واختتم د. المزيني رأيه الفقهي بالقول: «فإذا ثبت كون احتكار الأراضي ممنوعاً شرعاً، فيشرع لولي الأمر - حفظه الله - أن يضع التراتيب المانعة من هذا الظلم، مثل فرض الزكاة على الأراضي التي من شأنها أن تكون تجارية واستثمارية التي لم يتأكد تخصيصها للسكن الخاص، وأن يجبر المحتكرين على البيع بسعر المثل بشروط عادلة، وهذا نوع من التسعير الذي أجازه العلماء في مثل هذا الظرف».