سعادة الأستاذ/ خالد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
اطلعت في صحيفتكم الغراء عدد 15145 تاريخ 16-5-1435هـ على موضوع منكر ونكير وما فيه! فرأيت أن أدون بعض وقفاتٍ قصيرة لإيضاح جانب الحقيقة علّه يزيل اللبس والغشاوة. شاكراً لسعادتكم حسن تجاوبكم وتفاعلكم فأملي نشر مقالي المرفق، بارك الله فيكم.
المرء امتاز عن غيره بعقله به يتدبر ويتفكر وبه يتقدم ويتأخر. إنه نعمة يزن بها الأمور، وبه يتوقف عن تجلية المستور. فأنت في هذه الدنيا بين أمور مشاهدة أو في حكمها، وأخرى غيبية غائبة لا يجليها إلا من أخذ بزمامها واستدل الستار عن بعض أحوالها. فالقرآن والسنة مصدرا أهل الإسلام منهما تستمد حقائق القيامة وأهوالها والقبر وأحواله والموت ونزعاته. ولولا هذا لما علمنا بالعالم الغيبي وأطواره.
وإن المرء لتأخذه الدهشة والاستغراب أن يأتي من عرف الإسلام فيسيل قلمه أو يتحرك فكره متردداً في التصديق بتلك الحقائق أو بعضها، وقد أوحي إليه كما أوحي إلى من قبله بأنها ثابتة بالوحيين. فإن كانت هذه كبوة لعله يعقبها نباوة. وإن كان غير ذلك فمع إحسان الظن فلنا مع من ماجت بهم المؤثرات ثماني وقفات جلية علها تشفي وتُروي:
الوقفة الأولى: نحن أمة متعبدون بما جاءت به شريعتنا إن أدركنا حقيقته وعلمنا حكمته ازددنا به إيماناً مع إيماننا، وإن لم تدركه عقولنا سَلَّمنا وتركنا كُنْهه لمن بيده أمرنا لأن العقول قاصرة عن تصوره {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85 سورة الإسراء). ومن خاض في عالم المغيبات، لن يبلغ المراد إلا بنص من الكتاب. ومن اعتز برأيه وكان شيخه كتابه، كان خطؤه أكثر من صوابه.
الوقفة الثانية: أهوال القبر وأخبار النشر أمورٌ غيبية تتوقف على الوحي، جلّت الشريعة بعضاً من حقيقتها لا كلها ونصوص الكتاب والسنة مليئان في تعريف الإنسان حقيقة أُخراه، وما مصيره بعد دنياه، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (50) سورة الأنفال. ومر -صلى الله عليه وسلم- على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) رواه البخاري ومسلم.
ورحمة بنا أن ستر الله عنا تلك الأهوال، وإلا لضاقت بالإنسان دنياه واضطربت أحواله، ففي صحيح مسلم (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر). مثل هذه الأهوال لا تقاس بميزان الدنيا أرأيت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (27 سورة محمد).
هل رأيت سياطاً وملائكة غلاظاً؟! أبداً، والله سبحانه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنت بجانبه عيناك تذرف الدمع على حبيبٍ يساق ولا تحس بشيء. وكان جبريل عليه السلام يُدارِس النبي - صلى الله عليه وسلم- القرآن والحاضرون لا يسمعون. وهذه الملائكة تتنزل ليلة القدر بيننا ولا نراها. قال السفاريني ت 1189هـ (وكيف يُنكر من عرف الله وأقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار خلقه وأسماعهم حكمة منه ورحمة لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والعبد أضعف بصراً وسمعاً من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر). وشاهده في واقعنا ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس فكيف بما هو أشد وأعظم.
الوقفة الثالثة: أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا، ومن مات قامت قيامته، والقبر أول منزل من منازل الآخرة، فلابد أن تتغير على الميت أحواله وينتقل إلى حياة برزخيه لا ندرك ماهيتها. ويؤكده أنه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف على شفير قبره وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي الصحيحين (أن الميت لَيَسمع خفق نعال المشيعين إذا انصرفوا) ولكن كيف حياته تلك؟ الله أعلم.
أرأيت الشهداء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم، كيفية حياتهم وفرحهم لا نعقلها. وفي الصحيحين (أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قتلا بدر من المشركين فخاطبهم فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كيف يسمعون وقد جَيّفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا) قال النووي في تقريب حال الموتى (إن ذلك غير ممتنع بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وآلاماً لا نحس نحن شيئاً منها. وكذا يجد اليقظان لذة وألماً لما سمعه ويفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه) قال السفاريني: (توسعة القبر وضيقه وإضاءته وخضرته وناره ليس من جنس المعهود في العالم. وقال ما كان من أمر الآخرة فقد أسدل عليه الغطاء ليكون الإقرار به والإيمان سبب لسعادتهم).
وقال القرطبي (ت 671): (أحوال المقابر وأهلها على خلاف عادات أهل الدنيا في حياتهم فليس تقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا وهذا لا خلاف فيه ولولا خبر الصادق لم نعرف شيئاً مما هنالك) ونحوه، عن الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله. فالواجب الوقوف حيث وقف الشرع. وترك التأويل من غير دليل.
الوقفة الرابعة: منكر ونكير اسمان لِمَلَكَي السؤال والجواب كغيرهما من ملائكة المهام أَوْكَل الله إليهما سؤال الميت بعد أن يقعدانه في قبره، ما ربك وما دينك وما نبيك.
فإن قيل الروايات مختلفة في اسميهما روايةٌ ملكان كما في البخاري ومسلم، وفي أُخرى منكر ونكير كما في حديث البراء المشهور، وفي رواية فَتَّان القبر. فالجواب: أن هذا لا يعني عدم حقيقتهما بل هذا يؤكد صدق رسالتهما، وأنهما يسألان الميت سؤالاً حقيقياً يعقله ويجيب إجابةً حقيقة بها نجاته أو هلاكه. علماً أن اسم منكر ونكير أثبتهما كثيرُ من أئمة العلم السابقين واللاحقين حتى أن الإمام أحمد بحر العلم لما قيل له نقول منكر ونكير أو الملكين؟ قال منكر ونكير.
ويحسن ذكر قول عمر -رضي الله عنه- الذي رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد لما ذكر - صلى الله عليه وسلم - فَتَّان القبر قال عمر: (أترد علينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم كهيئتكم اليوم. فقال عمر: بِفِيْه الحجر، وفي رواية إذاً أكفيكهما). فعمر رضي الله عنه صاحب إيمان راسخ أدرك أن عقله يعود إليه في قبره، ومن كان هكذا سيدافع عن نفسه ولكن الله أعلم بالكيفية.
وإن قيل تسميتهما لم تثبت عند البعض قيل فرقٌ بين رد الاسم ورد صدق رسالتهما. قال شيخنا محمد بن عثيمين: (ورد في بعض الآثار أن اسميهما منكر ونكير وليس المنكر الشرعي بل المنكر غير المعروف أي لا يعرفه الميت. ونكير بعمنى المنكر. فالاختلاف باللفظ وقيل لا يسميان ثم قال رحمه الله: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم سماهما بذلك فنحن نعتقد، وإن لم يكن سماهما فنحن نطلق ونقول ملكان فقط).
جِدوا فإن الأمر جِدُ
فأعِدوا له واستعدوا
الوقفة الخامسة: عذاب القبر ونعيمه ثبتت النصوص بحقيقته وهو معتقد أهل السنة والجماعة. قال شيخنا ابن عثيمين: يجب علينا أن نؤمن بأن الإنسان يعذب أو ينعم في قبره. ثم ذكر الأدلة.
إن صياح المعذبين في قبورهم يسمعه من يليه إلا الثقلان، قال صلى الله عليه وسلم: (يهود يعذبون في قبورهم) رواه البخاري ومسلم.
وآل فرعون يعرضون على جهنم غدواً وعشياً. بنص الكتاب، وثبت في صحيح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في حائط لبني النجار على بغلة له إذ حَادت به فكادت تلقيه وإذ أقبُر ماتوا في الإشراك فقال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه).
وذكر ابن تيمية أن أهل الخيل في الشام إذا مغلت أي مرضت دوابهم يقصدون قبور اليهود والنصارى فإذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب المغل. ومن حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء وتجعل غيرهم رميم، قادرٌ أن يجعل أحوال القبر تفوق التصور وتخرج عن المألوف، قال القرطبي: (صحة الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها ولا معارض). الوقفة السادسة: إن وصف حياة الميت البرزخية بالخرافية أو بالمسرحية بسبب رواية منكر ونكير أو غيرها لأنها فاقت الفكر والعقل قولٌ يرد على صاحبه، لأن في رده رداً على أئمة الأمة، وقول الجماعة مقدمٌ على غيره ولا تجتمع الأمة على ضلالة. وحُكمٌ كهذا يحتاج إلى فرسان ميدانه، الذين تساقطت عمائمهم في فنائه، تحقيقاً وتمحيصاً. فالأخذ عمن سبق أولى ممن لحَقَ، فقرب الزمان للرواية أحرى بالإصابة. حتى أن الشاطبي ت 790 عالم زمانه كان لا يأخذ الفقه إلا من كتب المتقدمين.
وليعلم أن كلمة الأساطير ما وردت في القرآن إلا في سياق الذم، فمن الهوان رمي جملة مصادر الإسلام بالمسرحيات الهزلية، وأي هزلية أردى من النيل من تلك المصادر؟. بل كان أئمة الإسلام ورواة أخباره على درجة من الورع عند الحكم على الرواية بالضعف، فضلاً عن ردها. فربما بميزاننا ضعيفة وفي علم الله صحيحة، قال بعضهم (شهرة الرواية تغني عن السَّنَد) لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. وقال الشاطبي: (أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للاعتماد صحة الإسناد). ولن تجد أُمَّة اهتمت بالإسناد مثل أمة الإسلام.
الوقفة السابعة: واعلم أخي أن استبعاد أهوال القبر أو بعضها نبتةٌ ومنهجٌ سالف قال به بعض العقلانيين لأن العقل هو مقياسهم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم). وحقيقة العقل الصحيح هو الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه. واعلم أن من استحسن فقد شرع قاله الشافعي.
وإعمال العقل وحده طريقة بعض المتكلمين والفلاسفة، فما أدركته عقولهم حق، وما نابذها يُرد. فكم تاهوا في طريق المعرفة، ومن ثم قفلوا راجعين عند المهرمة. قال فخر الدين الرزاي ت 606:
نهايةٌ إقدام العقول عِقال وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وهذا إمام الحرمين الجويني ت 478 يتمنى أن يموت على عقدة عجائز نيسابور. إن راية الشرع ناصعة جلية لا تحتاج إلى غربلة من لزمها حاز الطمأنينة.
الوقفة الثامنة: حينما يقع في كتب التراث وهمٌ أو خطأ لا يدوم فسرعان ما ينجلي لأن الله تكفل بحماية الإسلام ومصادره قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9 سورة الحجر). وقال لرسول: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (67 سورة المائدة).
فعصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم- في حياته وبعد مماته لبدنه وتشريعاته. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها). رواه أبو داود والطبراني بسند صحيح.
ومن هذا انبرى للإسلام و علومه جهابذة كرام ينفون عنه تحريف الجاهلين، وإبطال المبطلين، فمصنفاتهم تزخر بصحيح الأخبار محققين وموثقين.
وأخيراً، الأحرى بالمسلم التأني في العقيدة وهي سنة أئمةٍ كبار سبقونا حتى أن منهم من لم يصنف فيها مصنفاً وكثيرٌ منهم توقف في مسائلٍ عديدة طلباً للسلامة؛ لأن عالم المغيبات تموج به أفهام الرجال. وبهذا ننتهي من ثماني وقفاتٍ في سابلة طالب النجاة، من تلك الشطحات. ولنعتبر بمن فات، فزلاتهم طبل لأهل الشهوات. نسأل الله العصمة والنجاة من فتنة القبر وأهواله، والله المستعان.