في الثامن من جمادى الآخرة 1435هـ انعقدت ورشة عمل مع فريق الخبراء الدوليين في المسؤولية المدنية عن الأضرار النووية، برعاية مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية، وقد شارك في هذه الورشة جمع من أهل الاختصاص والخبراء، وكان محفلاً علمياً مقدراً، استطاعت فيه مدينة الملك عبد الله أن تديره باقتدار.
هذا وقد سرني كثيراً أن أكون ضمن حضور هذا المحفل العلمي. ومن خلال جلسات الورشة، دارت نقاشات علمية مختلفة كان من بينها بعض التساؤل حول مدى ضرورة سن نظام للمسؤولية المدنية عن الأضرار النووية ما دامت (اتفاقية فينا) قد فصلت هذا الأمر وما دام أن الاتفاقية نافذة في المملكة بأحكامها، كما ثار نقاش آخر حول مدى انتهاك تنفيذ الأحكام الأجنبية لسيادة الدولة، ورأيت أن أبين رأيي حول هاتين المسألتين :
المسألة الأولى : مدى الحاجة إلى نظام للمسؤولية المدنية عن الأضرار النووية:
رغم أنه متى تم التصديق على اتفاقية دولية من قبل المملكة فإنها تعد نافذة فيها، إلا أننا يجب أن نلاحظ أن الاتفاقيات الدولية قد تضع أحكاماً تحكمية، بحيث لا يجوز مخالفتها من قبل الدول، ولها في الوقت نفسه أن تضع قواعد تجيز للأنظمة الداخلية (الوطنية) أن تخالفها، فهذه الأحكام المكملة، جائزة المخالفة، كما أن الاتفاقيات الدولية قد تترك للأنظمة الداخلية تحديد موقفها إزاء مسألة ما دون أن تفصل فيها الاتفاقية. ناهيك عن أن الاتفاقية الدولية (ولاسيما اتفاقية أو بروتوكول فينا) قد تتيح للدولة التحفظ على بعض البنود ومن ثم لا تسري هذه البنود داخل الدولة الطرف .
وهذا بالضبط ما نجده داخل نصوص اتفاقية فينا، وعلى سبيل المثال نجد أن المادة الأولى تجيز لدولة المنشأة أن تقرر أن المنشآت التابعة لمشغل واحد في موقع واحد تعد بمثابة منشأة نووية واحدة، كما أن المادة الأولى تترك لقانون المحكمة المختصة أن ينص على أضرار أخرى تنجم عن الحادث النووي... وهكذا تتعدد القواعد التي تحيل إلى الأنظمة الداخلية لكل دولة طرف بحسب ما تراه محققاً لمصلحتها القومية. ومن ثم فإن وضع نظام للمسؤولية المدنية يعني أن المملكة قد حددت موقفها من هذه المسائل على نحو نظامي . هذا إضافة إلى أن وضع الدولة لنظام ينسجم مع الاتفاقية يعد من قبيل الواجهة القانونية والسياسية للدولة، ولذا فإن دولاً عديدة سنت قوانينها مستهدية بالاتفاقية، كالقانون الهندي والكندي وغيرهما.
النقطة الثانية: هو تنفيذ الأحكام الأجنبية ومدى مساسه بسيادة الدولة: والحقيقة أن هذه النقطة تبدو ساذجة جداً، لأن تنفيذ الأحكام الأجنبية ليس مستحدثاً على الأنظمة السعودية، بل إن هذا التنفيذ موجود قبل هذه الاتفاقية، وكان ديوان المظالم هو المختص بتنفيذ الأحكام الأجنبية، إلى ان تم منح هذا الاختصاص للمحاكم المدنية في مواد نظام التنفيذ.
وقد وضعت المادة الحادية عشرة من هذا النظام شروطاً عديدة، ومن أهمها شرطان أولهما المعاملة بالمثل؛ أي أن يكون الحكم صادراً من قضاء دولة تجيز تنفيذ الأحكام الصادرة من المملكة، وألا ينص هذا الحكم على ما يخالف النظام العام، وهذان هما الشرطان السائدان في أغلب قوانين الدول لأنهما يعبران عن القصد من تنفيذ الأحكام وهو تسهيل تنفيذ العدالة فلا يمكن لورثة المتوفى - على سبيل المثال - الذي يملك أموالاً في المملكة السعودية وبريطانيا وإيطاليا والبرازيل أن يقوموا برفع دعوى الميراث في كل هذه الدول، إضافة إلى أن قواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص تجيز عند رفع دعوى ذات أطراف أجنبية أن تطبق قانون الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الأطراف أو قانون الدولة التي يوجد بها العقار المتنازع عليه... إلخ. إذن؛ فلا يوجد مساس بسيادة الدولة في هذا الصدد.
أخيراً، أحيي مدينة الملك عبد الله على المبادرة في مشاركة المختصين بكل شفافية، ويسجل لها السبق في هذا النوع من المبادرات. آملين أن تنتقل هذه الظاهرة الصحية إلى كثير من الإدارات والهيئات ذات الصبغة التشريعية.