إن الأرقام التي تطالعنا بها ميزانية الدولة السنوية أصبحت بالمنظور السابق أشبه بالمعجزات لأننا لم نكن نعرف المليار أو نسمع به إلا مرة واحدة كل عام عند سماعه بوسائل الإعلام المسموعة أو قراءة عبر المقروءة مبلغ الميزانية الإجمالي والآن أصبحنا نقرأ ونسمع هذا الرقم بنفس الوتيرة التي كنا نسمع بها المليون في السنوات الماضية للعديد من المشاريع وللعديد من الوزارات وهي نعمة من الله سبحانه وتعالى، بل إن أكثر وزاراتنا أصبحت تحس بالتخمة من كثرة المشاريع، بعد أن كانت تتمنى جزءا يسيراً منها، والذي كان بالأمس من باب التقشف أصبح اليوم من باب الرفاهية، بل إن بعض المشاريع تعاد مخصصاتها لوزارة المالية ليعاد طرحها من جديد عام بعد عام. وأضحت أجهزتها الهندسية عاجزه عن الإشراف والمتابعة واستعانت بالقطاع الخاص للإشراف والاستشارة فحرية الحركة فيه أسرع من حركة أجهزتنا الحكومية كالعادة، ومع ذلك كثيرا ما يحدث التأخير في التنفيذ بسبب كثرة العروض غير ما يصيبها من تعثر المقاولين وتمطيط الجدول الزمني للإنجاز فعدد المقاولين أقل من عدد المشاريع، وفي الأخير تنتهي الأمور إلى خير حتى وإن تأخر الحلم في البعض وتحقق في البعض الآخر والسؤال ماذا يحدث بعد ذلك وكيف حال تلك المشاريع وما هي حالنا بعدها.
إن ما سبق ليس مثار الحديث لأنه واضح المعالم ولا سبيل فيه للجدال أو الاختلاف، ولكن ما يهمنا الآن ويؤرق عقول المنصفين والمقدرين لما تم انجازه وما صرف من مبالغ تكاد تكون خرافية في العديد من المشاريع أو فلكية من بعضها الاخر اننا بعد انجاز المشاريع بكامل بنيتها التحتية وشكلها الخارجي الجميل يأتي البشر الغير مسؤول والغير وطني لينتقم منا اولاً ومن وطنه وحكومته بكل موجوداتها وتفاصيلها ويعبث في تلك العطاءات والمشاريع ويبدد واقعاً كان بالأمس حلماً ويتلفها أو لا يتركها لغيره كما يحب أن يتركها غيره له ويخرج من الايمان وهو لا يدري لأن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول (والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهي قاعدة عامة في كل مناحي الحياة وتقلباتها، حين ذلك يتم تخصيص المليارات لمشاريع الصيانة والتشغيل التي يمثل العبث فيها وإساءة استخدامها اكثر من 70% من كلفة تلك الميزانيات وبشكل سنوي مزعج للغاية، وهذا هو التناسب العكسي بين المواطنة وبين الإنفاق الحكومي فلو ارتفعت المواطنة وأحسسنا بقيمة الوطن وما صرف على المشاريع من مليارات من أجلنا وحق أخينا المسلم علينا في أن ينعم بتلك المشاريع لما أتلفناها أو عبثنا بها أو أسأنا استخدامها ولذا نحن نصرف على التشغيل والصيانة أكثر مما نصرف على الإنشاء والتعمير لتلك المشاريع، وننفق على برامج نظافتنا من وسخنا مبالغ تبني مدن وتؤسس لبنية تحتية تكفي لعشرات السنين، ونرى و للأسف الشديد أن هناك اعتقادا بأن مال الدولة مال سائب لك أو للذئب وليس لأخيك من منطوق تعامل الآلاف من البشر مع الموجودات التي حبانا الله بها، وواقع الحال يؤكد أن إساءة الاستخدام للمشاريع القائمة سبب رئيسي في تأخر عجلة التنمية فالمصرفات التشغيلية تتزايد والمشاريع الجديدة تؤجل وفي الأخير الخاسر هو المواطن الصالح صاحب الوطنية المثالية الحقة، وليت من يسيء إلى نفسه ووطنه ومواطنيه يستطيع أن يفعل ذلك إذا سافر خارج المملكة خشية العقاب فكيف نجعل الذات هي الرقيب الصادق فالوطن كالنفس أو تزيد؟
إننا لا نرغب أن نستورد ثقافات تعلمنا ان المحافظة على الموجودات وحسن استخدامها والنظافة العامة هي عوامل تؤكد سمو النفس وعلو قدرها ومستوى تعليمها وثقافتها وفيها تقديم للحمد والشكر لله وهو المنعم المتفضل الذي وعد بالزيادة مع الشكر وبالبركة مع المحافظة، فيكفي أن نتبع النهج السماوي الكريم وما أرشدنا به رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه لنحقق في أنفسنا الخيرية بكاملها فالوطن وطننا وخيراته لنا ومشاريعه من أجل رفاهيتنا وما ينفق فيه إن لم نتمكن من الاستفادة منه في حياتنا فسيكون إرثا رائعاً نبقيه لأجيالنا القادمة التي من حقها أن تعيش أفضل مما عشنا وبثقافة أرقى مما كنا عليه، بل يجب علينا أن نزع حب الوطن بكل تفاصيله في أذهانهم ليشربوه كما يشربون الماء وليتغذوا به كما يتغذون بأصناف الطعام وليستنشقوا عبيره كما يستنشقون الحياة لأنه وطن يستحق العيش فيه والمحافظة عليه والعمل من أجله والتضحية لرقيه وازدهاره وتقدمه فنحن المستفيدون منه وهذا هو الواجب وليست مثاليات ندعيها.
ختاماً، يا ترى لو ارتفع لدينا الحس الوطني كمسئولين و مواطنين هل سنحتاج لهيئة مكافحة الفساد أو ديوان المراقبة أو هيئة الرقابة والتحقيق أو هيئة التحقيق والادعاء العام أو لأقسام الشرط والاجهزة الأمنية وغيرها من المصالح والدواوين التي تبحث في أحوالنا وأماناتنا، وهل ستنفق الدولة على مشاريع التشغيل والصيانة مثلما تنفقه الآن وهل سنتعامل مع وطننا كملاك أو مستأجرين وهل سنحقق الراحة النفسية الداخلية جراء حفظ الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها، وأجزم أننا اتفقنا على الأصلح لنا ولوطننا ولأجيالنا، والمهم بعد ذلك كيف لنا أن نحقق تلك المواطنة والإيجابية حتى نصل إلى الخيرة التي اختارها الله عز وجل لأمة محمد وضيعها البعض منا، أليس من الواجب أن نبدأ مع أبنائنا حتى لا يقع وطننا في السوء الذي أوقعناه فيه بأيدينا ويصبح الوطن لأجيالنا واحة غنى ودائم العطاء.
إننا إن وضعنا التبريرات الواهية لعدم تحقيق ذلك أو صعوبة وجوده أو اكتفينا برمي أخطائنا على الآخرين أو التنظير الذي يحسنه الكثير منا دون وجود لمثالية خاصة به على أرض الواقع فإن الحال سيبقى على ما هو عليه وستصبح الأحلام كوابيس وسيصبح الوطني هو التعيس في وطنه لأنه لا يرى التفاعل الإيجابي من المواطنين وسيرى المثبطون أنه يغرد خارج السرب وأنه مدع للمثالية وليس عامل بها ولكن يبقى في الختام البقاء للأصلح من إخواننا المواطنين الفاعلين.