هذه ورقة عمل تحمل رؤى مختلفة ألقيت في البرنامج الثقافي لكلية اللغة العربية يوم الأربعاء 11-5-1435هـ ورأت الجزيرة نشرها تعميماً للفائدة
الجانب النظامي:
الرسائل العلمية تمثل همَّا كبيرا للقسم الذي وافق عليها، والطالب الذي قام بإعدادها، والمشرف الذي بات حارساً ورقيباً عليها حتى سلَّمها الطالب إلى لجنة المناقشة.
كما تحمل هم القائمين على فحصها وتقويمها والحكم عليها بأنها صارت لبنة صحيحة سليمة، خالية من العيوب القادحة، وأن صاحبها يستحق منح الدرجة العلمية التي رامها.
ولهذا كله اقتضت لوائح تنظيمية تعنى بها بدءا من تسجيلها وانتهاء بمناقشتها، وعلى مقدار كفاءة هذه اللوائح دقة وشمولا يتوقف جانب مهم من جوانب المستوى العلمي لهذه الرسائل إلى جانب الجانب المتعلقة بالباحث والمشرف.
وقبل الحديث عن اللوائح المتعلقة بالدراسات العليا لا بدَّ لي أن أشير إلى أن حضارة الأمم إنما تقاس بمستوى جودة أنظمتها، مراعية الجانب العلمي القانوني الخالي من الأهواء والتناقضات، ورقي الأمم يقاس بمدى التزامهم بتطبيق هذه الأنظمة تطبيقاً صحيحاً سليماً، مطرداً، يتساوى الناس فيه جميعاً ولا يميز أحداً على أحد، ويكون التطبيق خالياً مما يؤخذ عليه من استثناءات تصبح كأنها أصل، وتخرج من إطارها كونها استثناء محدوداً لمعالجة حال معينة فقط.
عند تأسيس الجامعات السعودية قبل عام 1414هـ، كان لكلِّ جامعة نظامٌ يمثل شخصيتها الاعتبارية المستقلة، مراعية تلك الأنظمة الإطار العام للتعليم الجامعي.
وكان لكل جامعة لائحةٌ تخص الدراسات العليا فيها، ومن أسبق الجامعات التي وضعت لائحة للدراسات العليا جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فقد فتحت برنامجا للدراسات العليا عندما كانت كلياتها كلياتٍ تشرف عليها الإدارة العامة للكليات والمعاهد العلمية، ونوقشت فيها كثير من الرسائل العلمية لمرحلة الماجستير.
طبقت الجامعاتُ اللوائحَ التي أصدرتها، وسار التعليم العالي في مراحله بشيء من التؤدة، وحرصت الجامعات في ذلك الوقت على المنتجِ طلباً للجودة فانتخبت أفضل العلماء والأساتذة للإشراف والمناقشات، وكانت المناقشاتُ حلقاً عالية مطورة من حلق العلمِ بصورة عصرية جديدةٍ، وبدأت الرسائلُ تتوالى في عدد من الجامعات السعودية.
في مجال الدكتوراه أحرزت جامعة أم القرى قصب السبق بمناقشة أول رسالة دكتوراه في السعودية وذلك بتاريخ 26-2-1398هـ الموافق 4-2-1978م، وكان عنوان الرسالة: الإجارة الواردة على عمل الإنسان، وهي رسالة لنيل درجة الدكتوراه في الفقه من كلية الشريعة بجامعة أم القرى، للطالب شرف بن علي الشريف، وأشرف على هذه الرسالة الأستاذ الدكتور حسين حامد حسان، وناقشها سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء آنذاك، والأستاذ الدكتور محمد فايد مدير جامعة الأزهر في ذلك الوقت، واحتفلت الجامعة بهذه المناسبة احتفالاً كبيراً حيث نوقشت الرسالة في قاعة فندق الإنتركونتننتال - الهدى، ودعي لهذه المناسبة كثير من الشخصيات العلمية على مستوى العالم الإسلامي.
بعدها توالت الرسائل في جامعة الإمام وغيرها من الجامعات، ولكن أول رسالة دكتوراه نوقشت في جامعة الإمام كانت رسالة الدكتوراه التي عنوانها (الأطعمة ما يحل منها وما يحرم بالأدلة) قدمها الشيخ صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان، وبإشراف الشيخ عبدالرزاق عفيفي ونوقشت هذه الرسالة عام 1399هـ.
أما في هذه الكلية فقد كانت أول رسالة دكتوراه هي رسالة الدكتور علي الخضيري، وعنوانها: ابن مقرب العيوني، وأشرف عليها الأستاذ الدكتور عبدالقدوس أبو صالح، وناقشها الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله تعالى- مناقشاً داخليّاً، وكان رئيس قسم الأدب في وقته، وناقشها الأستاذ الدكتور سعد بن ناصر الرشيد، وكان في ذلك الوقت أستاذاً مشاركاً في جامعة أم القرى، وذلك بتاريخ 27-7-1400هـ، واحتفلت بها الكلية احتفالاً خاصّاً، فالمناقشة كانت في قاعة كلية الشريعة، والاحتفال كان في الدور الثاني من مبنى الكلية في شارع الوزير.
وبعد أن كان لكل جامعة لوائحها الخاصة بها صدر في عام 1414هـ القرار الأشهر في تاريخ التعليم الجامعي في السعودية، وهو القرار رقم م /8 بتاريخ 4-6-1414هـ الذي ألغى جميع أنظمة الجامعات المختلفة، وجمعها كلها تحت نظام واحد، اسمه (نظام مجلس التعليم العالي والجامعات)، وبناء على المادة التاسعة والخمسين الفقرة الأولى ألغيت أنظمة الجامعات السابقة، ونصت هذه المادة بفقرتها الأولى على أنه: «يلغي هذا النظام نظم الجامعات المنصوص عليها في المادة الرابعة منه، ويلغي نظام المجلس الأعلى للجامعات.... كما يلغي كل ما يتعارض معه».
وبعد ذلك صدرت سبعُ لوائح تنظم العمل بالنظام الموحد، وسمحت اللوائح لمجالس الجامعات أن تضع القواعد التنفيذية لكل لائحة، وفعلاً صدرت القواعد التنفيذية لهذه اللوائح لكل جامعة على حدة.
وفيما يتعلق بموضوع هذه الورقة -وهو مناقشة الرسائل- صدرت لائحة الدراسات العليا بالقرار (3-6-1417)، وصدرت لها قواعد تنظيمية تحدد آلاتها وإجراءاتها بصفة نظامية غالبة.
وخصصت هذه اللائحة لمناقشة الرسائل تسع مواد: من المادة الرابعة والخمسين إلى نهاية المادة الثانية والستين، وذلك من مجموع مواد اللائحة الثماني والستين.
لن أطيل الوقوف على الفروق بين لائحتين، ولكن أقف مع مادة واحدة من المواد المتعلقة بمناقشة الرسائل:
ففي اللائحة السابقة، كانت المادة الحادية والثلاثون تتضمن فقرتين، الأولى منهما نصت على أن «تكون المناقشة علنية، وتقرر نتيجة المناقشة بأغلبية آراء أعضاء اللجنة، وتعلن بعد تمام المناقشة».
أما في اللائحة الموحدة فلا يوجد نص على علنية المناقشات أو عدمها، وليس في اللائحة أيضاً نص على أن تعلن النتيجة بعد المناقشة مباشرة، وترك هذا الأمر لمجالس الكليات.
وقد ترتب على هذا أمور كثيرة، منها أن علنية المناقشة لم تعد إلزامية، وأن إعلان النتيجة بعد المناقشة ليس إلزاميّاً أيضاً، بل يمكن أن يعلن بعد، ويمكن ألا تعقد المناقشة لأسباب يقرها القسم، ويمكن تأجيل إعلان النتيجة، كل هذا ممكن؛ لعدم وجود النص في اللائحة، وبعد هذا يبدأ التنازل إلى ما لانهاية بعده، بل ربما يصل الأمر إلى أن تكون المناقشة في المكاتب، وقد تصل إلى ما هو أسوأ لعدم وجود ما يمنع من هذا نظاماً.
ويمكن أن تقوم القاعدة التنفيذية مقام مادة أو أكثر من مواد اللائحة، ولكن ليس لها قوتها؛ لإمكان الاعتراض على القاعدة نظاماً، وعدم جواز الاعتراض اللائحة نظاماً، بناء على ما تنص عليه المادة الأخيرة من مواد اللوائح بأن حق تفسيرها لمجلس التعليم العالي.
الكتابات السابقة:
موضوع مناقشة الرسائل موضوع مهم وخطير تحيط به الحساسية من جميع جوانبه، بدءاً من تكوين اللجان وانتهاء بمرور النتائج على المجالس وإقرارها بصورة نهائية، لذلك عرضت له مناقشات ومحاورات متعددة، وعلق عليها كثير من المعنيين بما يرونه فيها، ولا إشكال ولا ريب أنها محل اهتمام من جميع من تحدث في هذا الموضوع، وكل من وقفت على كتابته أو محاضراته ينطلقون من منطلق واحد، وهو الصدق في النصيحة، ومواجهة الأمر مواجهة صريحة.
من أبرز من تحدث عن هذا الموضوع أ.د. خالد الدريس، أستاذ السنة وعلومها في قسم الدراسات الإسلامية في كلية التربية بجامعة الملك سعود في محاضرة نفيسة، وفق فيها توفيقاً كبيراً، فوضع كثيراً من النقاط على الحروف، مع حسن تخلص وسلامة عبارة، وجودة مداراة حاول من خلالها أن يتجاوز كثيراً من الخطوط ليصل إلى نهاية المراد، وهو أن ينبه تنبيهاً صحيحاً على خطورة هذه المسألة ووضعها في نصابها الصحيح.
وكتب كثيرون منهم د. عمر بن عبدالعزيز المحمود، ود. عبدالرحمن بن ناصر السعيد، ود. دلال العتيبي وغيرهم، وهؤلاء الذين ذكرت جميعهم يتفقون على أن مناقشة الرسائل تمثل مشكلة بارزة، واتفق الجميع على أنها وصلت إلى حدٍّ كبير من التدني تحتاج تشخيص المشكلة وتحديد معالمها ووضع الحلول الصحيحة لها.
د. عمر المحمود كتب عدة مقالات في جريدة الجزيرة آخر شهر ذي الحجة الماضي وأول شهر محرم، ومما قاله: « إنه لمن المؤسف حقاً أن تصبح مناقشة الرسائل العلمية أشبه بإجراء إداري روتيني كغيره من الإجراءات الإدارية التقليدية التي تمر بها الرسالة العلمية إلى حين حصول مُعدِّها على الدرجة العلمية، ومن المؤسف أيضاً أن يصل حدُّ الاستهتار ببعض الباحثين إلى أنه يكون واثقاً في أنه سيمنح الدرجة حتى لو كان ما يُقدِّمه في رسالته لا يساوي الورق الذي كتب به».
وقال في مقال آخر له: «ومن أسباب ضعف المناقشات استسلام المناقشين للضعف العلمي والثقافي الذي يعاني منه كثيرٌ من الطلاب اليوم، ومن ثم نزول معيار الجودة عندهم، فتصبح الرسالة المتوسطة ممتازة ويُوصى بطباعتها!.. وتصبح الرسالة الضعيفة مجازة مع بعض التعديل الطفيف، ومن عجيب ما رأيته في هذا السياق أنَّ بعض المناقشين أصبحوا يعدُّون الأمانة العلمية أو التوثيق الدقيق من مميزات الرسالة، وأنَّ تنوع المصادر أو قلة الأخطاء اللغوية والإملائية من أسباب تفوقها، وأعتقد أنَّ سبب ذلك انخفاض مستوى الجودة في الرسائل العلمية واستسلام المناقشين للضعف الذي تنضح به، ومن ثم يضطرهم ذلك إلى البحث عن أمور رئيسة وبدهية في الرسالة وعدِّها من المميزات».
أثارت مقالات د. عمر د. عماد حسيب محمد فكتب مقالاً عنيفاً ردة فعلٍ، وجاء في أوله: «تابعتُ باهتمام بالغ ما كتبه د. عمر بن عبدالعزيز المحمود تحت عنوان (إجازة الرسائل العلمية) في ثلاثة أعداد متتابعة، وأعجبني كشفُه الحر عن موضوع نشعر إزاءه بالخجل، وعندما تتكشف أمامنا الحقائق -التي نعلمها- نُصاب بخزي مؤقت، نعود بعده لممارسة عملنا، لكي نتابع المأساة وهي تتكرر، وتتكرر معها مواقفنا السلبية التي تخضع لسلطة المجاملات والأستاذ الجاهل والآخر المرائي والطالب المغيب والقاعة المكيفة التي تبهرنا مقاعدها.... والتقدير الممنوح عن أطروحة غير صالحة للمناقشة، ولحظات البهجة التي يعيشها المهرجون وهم يتناولون الكعك والحلوى بعد انتهاء الكوميديا الساخرة.». الجزيرة 12-1-1435هـ.
ولهما أقول: لقد كانت المناقشات في وقت قريب تخضع لتقويم جادٍّ من أساتذة يحسنون التقويم، وحسبي أن أشير إلى ما ذكره الأستاذ الدكتور أحمد الحكمي في دليل رسائل الكلية قال:» وقد بلغ عدد رسائل الماجستير الحاصلة على تقدير ممتاز (49) رسالة....وبلغ عدد رسائل الماجستير الحاصلة على تقدير جيد جدّاً (45) رسالة...، ولم يتجاوز عدد الحاصل منها على تقدير جيد (5) رسائل « الدليل 12. هذه نسب متكافئة، ولا تحتاج مناقشة لأن الأرقام دليل واضح.
عموماً هذا مدخل للموضوع الذي سوف أعرض له، وما ذكره الزملاء الفضلاء صحيح، وإن اختلفت معهم في بعض جوانبه.
ولكنني صراحة أوافق د. خالد بن منصور الدريس في جميع ما قاله، ولن أبدأ من حيث بدأ، ولكني سأنطلق من نقاط أخرى لم يعرض لها، أو أنه عرض لها ولي فيها وجهة نظر، وأبرز ما ذكره في محاضرته التي عنوانها: « مناقشة الرسائل العلمية واقعها وسبل تطويرها « الآتي:
قسم موضوعه خمسة أقسام هي؛ المناقشة والمناقِش، والمناقَش والمشرف والجمهور.
وذكر ما يتعلق بكل قسم من هذا الأقسام ومما ذكره:
- الخلل في آلية اختيار المناقشين، فربما لا يراعى في كثير من الأحيان أن يكون التخصص الدقيق للمناقش موافقاً لموضوع الرسالة.
- كثرة الحصول على الامتياز دون وجود لوائح تبين المعايير الدقيقة للرسالة التي تستحق الامتياز، أو تستحق إعادة المناقشة أو الرد.
- الوقت في المناقشات غير محدد، والذي جرى عليه العرف ألا تتجاوز ثلاث ساعات، وهذا يشكل ضغطاً على المناقشين، ولا سيما الجاد منهم.
- الأجواء الاحتفالية غير المقنعة والمبالغ فيها في كثير من الأحيان، تجعل المناقش في ضغط نفسي وحرج من ذم الرسالة.
- الضغوط الحاصلة على المناقش عند تسلمه الرسالة ومطالبته بالإسراع في مراجعتها.
هذا ما يتعلق بالمناقشة، ثم ذكر د. خالد أموراً تتعلق بالطالب منها:
- ممارسة الضغط على المناقشين.
- تجاهل ملحوظات المناقشين.
- لؤم بعض الطلبة مع المناقشين بحذف أسمائهم من الرسالة بعد طباعتها.
- العرض الذي يقرؤه الطالب أحياناً يكون مجرد عرض للخطة.
- التزلف الزائد للمناقشين.
- الصمت المطبق أثناء المناقشة دون جواب.
- بكاء الطالبات غير المبرر، والذي يسبب حرجاً لكثير من المناقشين.
ومما ذكره من تعليق على بعض المشرفين:
- الدفاع الفج من بعض المشرفين عن طلابهم، والتحيز المبالغ فيه.
- الغمز واللمز والإشارات الخفية للطالب.
- عدم معرفة بعض المشرفين بالرسالة وعدم الاطلاع عليها.
- ممارسة المشرف لضروب من الاستمالة العاطفية نحو زملائه في لجنة المناقشة.
- الضغط على أعضاء لجنة المناقشة من ناحية الوقت، والضغط عليهم للانتهاء بسرعة قبل استيفاء الملحوظات.
ومما ذكره من ملحوظات على المناقشين:
- عدم قراءة الرسالة كاملة.
- الخروج عن الموضوع أو الروح العلمية.
- إهمال الملحوظات المنهجية والتركيز على الأخطاء الطباعية والأسلوبية والإملائية....، تعالي بعض المناقشين والاستعراض في مناقشته، تحويل المناقشة إلى تصفية حساب.
- عدم ترتيب الملحوظات.
إلخ.. ما ذكره الأستاذ الدكتور خالد الدريس، من ملحوظات وإشكالات ذكرت منها ما أريد الوقوف عليه.
مناقشة الموضوع:
وقبل أن أعرض بعض الإشكالات أذكر أن لجنة المناقشة لجنة قضاء، وليختر كلُّ واحد ما يقضي به، فإنه مسؤول عما يحكم به، وأختلف مع الدكتور خالد الذي تساءل في آخر محاضرته عن تكييف لجنة المناقشات شرعاً: أهي من قبيل القضاء أم من باب المناظرة ؟
وأقول غير متردد: هي من باب القضاء، والدليل أن النتيجة التي تعلن تسمى حكماً، واللجنة تسمى أيضاً لجنة الحكم على الرسالة وتقويمها، فهذا يقضي بأنها من باب القضاء، وفي نهاية الأمر المناقشان حاكمان على العمل الذي بين أيديهم حكماً نهائيّاً، مانحان لصاحب العمل الدرجة المترتبة على حكمهما، مستمتعاً بجميع مزاياها المقررة لها بناء على حكمهما. ولذا فالذي يظهر لي أنه مجلس قضاء، وأن المناقش والمقرر حكام على هذا العمل فهم في هذه الحالة قضاة، ودار حديث بيني وبين سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ - متعه الله بالصحة حول هذا المسألة فقال ما نصه: هي قضاء، والله يعيننا على أنفسنا. أ.هـ.
وعلق هذا الزميل النبيل د. عبدالعزيز بن محمد الزير بقوله: «يمكن النظر من زاوية أخرى؛ إن لجنة المناقشة عضوان هما شاهدان، أما الثالث فهو مدير اللقاء فهو مدير اللقاء توقيتاً ومراقبة عرض الشهادة؛ لأنَّهما يشهدان أن ما قدمه الطالب يستحق الدرجة التي سعى إليها»، وعلقت عليها بأنه وجهة نظرٍ صحيحةٌ، وهي نوعٌ من أنواعِ الشهادة بالصحة والسلامة من العيوب القادحة التي تحول بينها وبين المنح، وهذا يؤول إلى أنها حكم وقضاء.
ولي وقفات:
أولاً: جميع ما ذكره د. خالد صحيح، ويمثل معاناة يدركها من خاض غمار المناقشات في أوقات كثيرة، ومن عرف المناقشات في وقت سابق وكيف كانت ؟، ومن رأى اللاحق وما آلت إليه المناقشات، يدرك حقّاً أنها معضلة كبيرة على مستوى الجامعات السعودية التي صارت تتسابق في منح الدرجات، وكأنها هبات توزع بالمجان على من يستحق ومن لا يستحق، وأن الأمر ليس خاصّاً بقسم أو كلية أو جامعة، وإنما هو أمر شاع وانتشر، ويغيب عن هؤلاء قصداً أو بغير قصد أن المناقشات ابتداء هي اختبار للطالبِ، وأن الرسالة إنما ورقة امتحان، يختلف عن الامتحانات الدراسية بأنه امتحانٌ علنيٌّ يؤهله لمرحلة عالية، وأنها ليست اختباراً للطالب، بل هي اختبار للمناقشين أيضاً، فيتضح من خلال المناقشة قدرة الممتحن العلمية والمنهجية، وتبرز عقليته في عرضه لأسئلته وتلقيه الإجابة عنها، وتقدير مستوى الإجابة.
ثانياً: غياب الأساس الذي نصت عليه لائحة الدراسات العليا والذي تسجل بناء عليه الرسالة، فقد نصت المادة الثالثة والأربعون على الأصل في تسجيل الماجستير والدكتوراه، وهو الفارق بينهما مادة وتسجيلاً، والمفترض ومناقشة فمحاكمة الدكتوراه تختلف عن مناقشة الماجستير، وما يقبل في الماجستير لا يقبل في الدكتوراه، ونص اللائحة هو: « يجب أن تتميز موضوعات رسائل الماجستير بالجدَّة والأصالة، كما يجب أن تتميز موضوعات رسائل الدكتوراه بالأصالة والابتكار والإسهام الفاعل في إنماء المعرفة في تخصص الطالب»
حددت هذه المادة تحديداً صريحاً الهدف العام من رسالة الماجستير، والهدف العام من رسالة الدكتوراه، ولا تداخل بينهما، ويدرك هذا الكثيرون.
فالمفترض أن تقوم المناقشات العلمية الجادة ابتداء في تحقيق هذه المادة على هذين المستويين، وتلزم الطالب إلزاماً في المناقشة ببيان واضح يحدد فيه قدرته على تحقيق المستوى المطلوب منه للحصول على الدرجة المتقدم لها.
والبحث عن هذا الأساس في مناقشة الرسائل بصفة عامة غائب إلى حدٍّ كبير، وعلَّق بعض أساتذة الجامعات على هذا الأمر فقال: «الإخلال بهذا الهدف يكون المؤاخذ عليه هو القسم الذي وافق على الموضوع، وجعلُ تحقيقه معياراً في التقويم فيه أخذ البريء بجريرة المذنب».
ثالثاً: ما ذكره د. خالد من أن الناس تعارفوا على تحديد الزمن بثلاث ساعات، هو كما قال عرف جرت به العادة، وليس في النظام القديم ولا الجديد نصٌّ صريح على مدة المناقشة، وما يقال من تحديد الوقت ليس سوى اجتهادات شخصية وانطباعات فردية للضغط على المناقشين الجادين وانحيازاً للطالب لئلا تتكشف كثير من السلبيات على العمل، وليس في القواعد التنفيذية أيضاً نصٌّ على تحديد مدة المناقشة، وترتب على هذا طولٌ مربك، أو قصرٌ مخلٌّ، ولهذا أمثلة كثيرة، ولكنه كما ذكر يسبب حرجاً للمناقشين الجادين الذين يريدون إعطاء المناقشة حقها العلمي، ويقوِّمون العمل تقويماً صحيحاً، وضبط هذه الأمور يتمثل في جدية المناقشة، ابتداء من ضبط التقديم وانتهاء بتبادل أدوار المناقشة، وبُعدِها عن جميع ما يخل بإطارها العلمي القوي، فقصر مدة المناقشة يؤثر تأثيراً صريحاً على مصداقيتها، وطولها أيضاً يضعف جانب التركيز فيها.
نعم، وجدت مناقشات طالت مدتها طولاً زائداً عن المعقول، وتفرق عنها الناس الحاضرون ولم يبق إلا القليل، ومنها على سبيل المثال ما حدث في هذه الكلية، فالرسالة التي عنوانها (مصطفى صادق الرافعي؛ حياته وأدبه) التي نوقشت مساء يوم 14-5-1407هـ، بدأت المناقشة بعد صلاة المغرب مباشرة، وانتهت قبل أذان الفجر بربع ساعة، وأحد أعضاء اللجنة مازال يعمل في الكلية، والمناقشة مسجلة وموجودة، وكان عضوا المناقشة جادين جدّاً.
بعد هذا: هل يمكن موازنتها بمناقشة تنتهي بساعة أو ساعتين، وقد حدث، فهل يمكن أن توزن ملحوظات قيلت في مدة استغرقت ساعات طوالاً بما قيل في وقت يسير.
ثالثاً: من مشكلات المناقشات المزمنة أن يأتي المناقش ليناقش الطالب فيجد نفسه في حرج شديد، إذ ينبري المشرف إلى جانب الطالب مدافعاً وموضحاً ومعلِّقاً، وكأن المناقشة موجهة إليه، وهذه معضلة تعطي انطباعاً سيئاً عن الرسالة وعن الطالب، والمناقشة معقودة ابتداء لامتحان الطالب، وليست للمشرف.
ومن أهم سمات المشرف الصادق والعالم الجاد التجرد، فقد نوقشت رسالة في هذه الكلية بعنوان: «دراسة نحوية لكتاب مشكل القرآن « أشرف عليها شيخي الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالخالق عضيمة، وناقشها الأستاذان د. أحمد حسن كحيل ود. محمد بدوي المختون، وذلك مساء يوم 1-1-1402هـ، فلما انتهى المناقشان من عرض ما لديهما أخذ الشيخ عضيمة دوره وبدأ يناقش الطالب في ملحوظات كتبها ولم يقم الطالب بتعديلها.
ثم كان من تجرد الشيخ عضيمة أن أجاز الرسالة بتقدير جيد فقط.
هذا المثال تكرر في عدد من المناقشات، وفيه تجرد كبير، وهو بحق تجرد العلماء الذين يقدرون العلم، ويتحملون مسؤوليته، ويعطون كل ذي حق حقه، ويدركون قول الله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}.
يقابل هذا أن بعض المناقشين ينسى أو يتناسى أنه في قاعة مناقشة، ويبدأ في شرح ملحوظاته للجمهور، ويضيق به الوقت، وهو لم يقدم شيئاً ذا بال في مناقشة الطالب، وإنما شرح وتعليق، والموقف لا يقتضي هذا، ولا يحتاجه، مما يؤدي إلى هبوط مستوى المناقشة وضعفها.
رابعاً: أشار د. خالد الدريس عن واقع المناقشات وذكر عدداً من الملحوظات على المناقشات، وعلق على هذا الأمر الزميل الفاضل د. خالد النملة كتابة يطلب التعليق على: «منهج المناقش في المناقشة من جهة تصنيف الملحوظات وترتيبها، وترتيب الملحوظات داخل كل تصنيف منها، ومن جهة تقسيمها إلى ملحوظات إجمالية ثم تفصيلية، ومن جهة الاقتصار على بعض الملحوظات الدالة على نظائرها في الرسالة، ومن جهة اشتمال المناقشة في أثنائها على إظهار بعض المواضع التي أجاد فيها الباحث وأحس بتميز يستحق العرض».
أشار د. خالد الدريس إلى ملحوظات تتعلق بسير المناقشة، وما ذكره د. خالد النملة أمر يستحق النظر أيضاً، وذكر ميزات العمل ليس موضعَ اختبار، وإنما يذكر لرفع معنويات الباحث حتى يتمكن من الإجابة على ما يوجه له من أسئلة، والملحوظات تختلف أيضاً فهناك ملحوظات يكفي منها المثال، كالتدليل على خلل منهجي مطرد، أو أمثلة لأخطاء الطباعة أو الإملاء، إلا ما كان منه ناتجاً عن خلل عند الباحث أو ضعف أو قصور، فتجب مساءلته حينئذ، لكن الملحوظة المتكررة يكتفي منها بالأمثلة.
أما الملحوظات التي يجب الوقوف عندها فهي الملحوظات العلمية المتعلقة بتخصص الباحث الذي سيمنح فيه الدرجة، وهنا تجب مناقشته فيها مسألة مسألة للتأكد من فهمه المسألة واستيعابها، ومعرفة جزئياتها المفضية إلى التصور الكلي، ومعرفة تمكنه من بحثه الذي قدمه للاختبار، فقد يظهر من خلال ذلك أحياناً ضعف الباحث، أو ربما أنه لم يكتب البحث بنفسه، وهذا لن يظهر إلى بمناقشته مناقشة علمية تخصصية، أما فاحص يدرك المسألة ويستطيع الحكم عليها والبت فيها، ومعرفتها معرفة صحيحة تؤدي إلى سلامة الحكم على الباحث وعلى بحثه.
أما تصنيف الملحوظات فهو أمر جيد، وذلك في الأعمال التي ليست طويلة، بل هو الأجدى فيها، ولكن إن كان العمل كبيراً، فمن الصعوبة إعادة فتح الرسالة ثم العودة مرة ثانية إلى أولها، وهكذا عند كل نوع من أنواع الملحوظات يعاد تقليب الصفحات ففي هذا مشقة على الباحث وعلى المناقش والحضور، ولكن يركز المناقش على الأهم كما أسلفت في الأعمال الكبيرة التي تكون صفحاتها بالمئات.
أما المناقشون بصفة عامة فهم صنفان: صنف يراجع الأخطاء الطباعية والنحوية والإملائية، ويعنى بالتصويب اللغوي إلى حدٍّ ما، ويراجع المصادر ويوازن النص المنقول بأصله، وهذه غاية جهده، ولن تجد أكثر من ذلك.
وصنف آخر يدرك المناهج العلمية المختلفة ويعرف الفروق بينها، ويحسن تطبيقها، ويعلم صحة عمل الباحث بتعامله معها، وله أيضاً قدرة علمية تؤهله لتقويم العمل الذي بين يديه منهجيّاً وعلميّاً، ويدرك مواضع الخلل، كما أدرك مواضع الجودة، ويقوِّم العمل تقويماً صحيحاً، ينتفع بقوله الحضور والمناقش، وتكون مناقشته مناقشة علم تشهد له لا عليه، فأولئك هم الذين ينبغي الحرص عليهم.
خامساً: ترتب على الأمر السابق أن بعض المشرفين يتخيل أن التقدير لشخصه وليس للطالب ولا لبحثه، فيبدأ كما ذكر د. خالد باستمالة أعضاء المناقشة ومحاولة رفع الدرجات على أمور لا تستحق، وتنتهي عملية التجرد التي أشرت إليها آنفاً نهاية مؤلمة بكيل الدرجات بلا حساب، وهذا مما يفقدها مصداقيتها التي وضعت من أجلها، ومن أسوأ الأمور أن يختلط الحابل بالنابل، ويتساوى الضعيف بالمتميز، إذ لا قيمة للامتياز حينئذ، فكلهم امتياز، وكلهم فوق خمس وتسعين درجة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد علق على هذا كثيرون مما يمتعضون من كثرة الامتيازات وكثرة درجات الشرف بحق أو بغير حق، بل ذكر د. عمر أن المفترض أن من الرسائل ما يجاز ومنها ما يطلب المناقشون تعديلها، ومنها ما يرد، وأنَّه لم يسمع برسالة ردت، هو صادق أنه لم يسمع أن رسالة ردت، وعلق على هذه المقالة بعضهم ممن سمى نفسه طالب دراسات عليا بذكر ثلاث رسائل رفضت في قسم العقيدة وقسم القرآن وقسم أصول الفقه، ولم يسمها.
للحق وللتاريخ أيضاً أن ردَّ الرسالة ورفضها تحتاج شخصية كبيرة عملاقة إذا اتخذت قراراً برفض الرسالة يحترم الجميع قرارها، ومن أشهر الرسائل التي ردت على منصة المناقشة الرسالة التي أشرف عليها الأستاذ الفاضل الجليل تمام حسان -رحمه الله تعالى- وناقشها الأستاذان الدكتور علي البواب والدكتور علي أبو المكارم في جامعة أم القرى، وأعلن د.تمام رفض الرسالة على المنصة.
سادساً: بعض الجامعات العربية تلزم الباحث عند تسليم رسالته أن يكتب تعهداً خطيّاً يصدر في أول الرسالة، بأنه هو من أعدَّ هذا العمل كله من أوله إلى آخره، ولم يساعده أحد في كتابته، وأنه يتحمل جميع ما سجل فيه، وأنه يعرض نفسه للمساءلة إن تبين أنه أخل بشيء مما ذكر، هذا موجود في بعض الرسائل العلمية التي وقفت عليها.
ما الذي ترتب على هذا الأمر، ترتب عليه أن كتبت د. دلال العتيبي تؤكد بأن أهم ما يتصدى له المناقشون هو التأكد من أن الرسالة هي فعلاً من إعداد الباحث نفسه.
فهل هذا الأمر موجود في الرسائل العلمية؟ حتماً من يعرف الواقع يجيب بأنه موجود، وهل أصبح ظاهرة؟ والإجابة نعم إنها ظاهرة.
سابعاً: ورد في كلام د. خالد عند حديثه عن آلية اختيار المناقشين أنه قد تنعدم الدقة في اختيارهم، وعلق عليها بعض من عرض لهذا الموضوع بتدخل المشرف في اختيار المناقشين، تصريحاً أو تلميحاً، وإصرار بعضهم على أسماء معينة، وفي هذا كلام كثير؛ لأن المسألة لم تعد خاصة بجامعة معينة، بل أصبحت مع الأسف ظاهرة في كثير من الجامعات، ولذا تكلم عنها عدد ممن عرض لهذا الموضوع، وإذا تدخل الهوى في أمر ما أفسده، ونفى عنه صفة الموضوعية، بل نفى عنه صفة الشرعية أيضاً، وكما قال أحد المعلقين على هذه المسألة فقال: وبخاصة إذا كان الأسماء المختارة من أصحاب (دكتوراه تسليك) كذا عبَّر عنها، والعهدة على القائل، وقالت العرب: من أسند برئ من التبعة، وأزمة دكتوراه تسليك أزمة حقيقية مشاهدة، ولا يمكن إنكارها، ومن حضر أو سمع بعض المناقشات عرف حقيقة دكتوراه تسليك، وأصحابها الذين يصبحون بعد ذلك في درجات بدأت تسليكاً وانتهت تسليكاً، وهو أمر لا يقل خطورة عما ذكره د. موافق الرويلي في وسم (هلكوني) عند حديثه عن تزوير الشهادات، الذي يمكن التعرف عليه من معرفة المصدر، وهو أمر ممكن، ولكن يبقى وباء (دكتوراه تسليك) لا يقل سوءاً عن دكتوراه هلكوني.
وبهذه المناسبة وللحق يجب أن أشير إلى أن رموزاً معينة كبيرة كانت تحرص على اختيار أشخاص عرفوا بالعلم والإتقان، بل قال أحدهم ممن عمل في هذه الكلية، وقد ناقش معه أستاذ سعودي من جامعة أم القرى، بعد تلك المناقشة حرص أن يختاره ليناقش معه عدة مرات، وقال في إحداها: أنا أسعد أن يكون بجانبي فلان دائماً، لأن يبذل جهده في المناقشة ولا يجامل أحداً.
وكان هذا المعيار الذي صرح به هذا الأستاذ الكبير من المعايير المهمة التي تفتقد في كثير من المناقشات.
ثامناً: ذكر د. خالد أن بعض المشرفين في الجلسة المغلقة للجنة الحكم يقف ضد الطالب، وكأنه يصفي حسابات.
هذه آفة بلا شك، وقد حدثت وتحدث بين حين وآخر، ولكن يجب الإنصاف، والنظر الموضوعي في مثل هذه المسألة، ولا يسمح بحال أن يتحامل المشرف على الطالب فيبخسه حقه، ولا أن يتجاهل المشرف فيضرب برأيه عرض الحائط نخوة للطالب ضد مشرفه، كلا الأمرين ذميم، والحيدة تقتضي ما ينص عليه النظام بأن على المشرف أن يقدم بعد المناقشة تقريراً مستقلا، ثم يعرض على لجنة من القسم لتقرر مدى صحة ما ذكره عن الرسالة، فإن صح ما قاله، فيجب الأخذ به، وإلا فالنتيجة تقر بالأغلبية.
وأسوأ من هذا ألا يعرف المشرف الحد الذي ينتهي إليه، فالمشرف ينتهي عمله بتقديم تقرير عن الرسالة، وهنا يجب أن يقف نظاماً، ولكن هناك من المشرفين من يتصل بالمناقشين، ويحثهم على السرعة، وهذا ليس من عمله، بل هو من عمل الكلية ممثلة في عميدها ووكيل الكلية للدراسات العليا، وعند التزاحم يمكن أن يقوم به رئيس القسم نيابة عن وكيل الكلية للدراسات العليا، وجرت العادة في الجامعة التي تحترم النظام أن تنسق بين المناقشين وتقترح ثلاثة مواعيد للمناقشة يختار كل واحد منهم ما يناسبه ولا يتعارض مع أعمال التدريس، ويبلغ وكيل الكلية للدراسات العليا أو رئيس القسم اللجنة بالموعد ويعلن عن رسميّاً.
فإذا تدخل المشرف في أي مرحلة من هذه المراحل فما الحل العملي أو القانوني؟
اللائحة تجيز التحويل إلى مشرف آخر، وهنا يبرز رأيان في هذه الجزئية، وهما:
هناك من يرى أن يبادر القسم لإبعاده عن اللجنة لخروجه عن المسار النظامي إلى المسار الشخصي الذي ينفي صفة التجرد، فهو بمنزلة القاضي الذي تنقل عنه القضية إذا ظهر عليه انحياز لأي طرف قبل الحكم.
وهناك من يرى أن الحل بوضع لائحة صارمة إلزامية بعدم التدخل بعد تسليم الرسالة للقسم.
ولذا تجد الكثيرين من المشرفين يجدون حرجاً في الاتصال أو التنسيق أو حتى السؤال؛ لأن مهمته انتهت منذ قدَّم التقرير، وبدأت مهمة غيره.
وأذكر حادثة من هذا القبيل أن المشرف انحاز انحيازاً تامّاً للطالب، وطلب في المداولة منح الطالب تقديراً فوق ما يستحق فرض الأعضاء طلبه رفضاً تامّاً لأن الرسالة مجازة، ولكن لا يمكن أن ترقى بحال إلى ما يطلبه، فرفض الخروج وإعلان النتيجة، التي تبرع أكبر العضوين سنّاً بقراءتها وإعلانها لأن اللائحة القديمة تنص على إعلان النتيجة بعد المناقشة مباشرة.
تاسعاً: في المناقشات تختفي الموضوعية عند كتابة التقرير النهائي، وتختفي الملحوظات العامة التي تفنن المناقشون في إلقائها في المناقشة، وتجد إيجابيات لا ترقى أن تكون إيجابيات تحقق ما جاء في اللائحة، ولا ترى سلبيات يمكن أن تنبئ على أن المناقشين استوعبا العمل المناقش استيعاباً صحيحاً فكتبا ما يمكن أن يدل على قدرتهما في الفهم والاستنباط، وصارت الكتابة كلا كتابة، وأمراً شكليّاً لا قيمة له، فلا أثر له في الدرجة الممنوحة.
بل خلاصة ما ذكر الدكتور عمر أن تستجدى الإيجابيات التي كانت في يوم من أدوات الباحث لتعد حسنات، وما ذاك إلا لضياع شديد في العمل فاستحسن فيه ما ليس بالحسن.
عاشراً: مع الأسف تنسى الأقسام مهمتها في المصادقة على النتيجة، وهي شهادة من الجميع بصحتها وسلامتها من العيوب القادحة، وأن القسم أوصى بالموافقة، وصارت الموافقات شكلية غير موضوعية، وذهبت شخصية الأقسام العلمية أدراج الرياح، وتعرض النتائج مجاملة متناهية سواء حظيت بقناعة من الجميع أو بمقت من الجميع، والجميع صامتون، والأمانة مع الصمت في مهب الريح.
من الأشياء التي تذكر أن مناقشة تمت في الكلية منحها المناقشان خمساً وسبعين من مائة، ومنحها المشرف خمساً وتسعين، والحادثة مشهورة، فوافق القسم المختص على تقدير المشرف وهو زميلهم، ورفعت إلى مجلس الكلية الذي بدوره أعمل اللائحة التي اشترطت موافقة الثلثين، فرفض تقدير المشرف، وكان هذا قبل وجود عمادة الدراسات العليا فعرض الموضوع على مجلس الجامعة، وشكل لجنة للنظر في تسجيل المناقشة واستعراض العمل، وخرج مجلس الجامعة بإقرار رأي مجلس الكلية، هذا مثال لم يتكرر، ولكن لو لم يكن رأي مجلس الكلية صواباً أو وافق صواباً لما أقره مجلس الجامعة.
هناك ملحوظات كثيرة على المجالس ومستوى الأداء، وعلى كثرتها، فمع الكثرة تغيب الموضوعية أحياناً كثيرة، ومع وجود الهوى مع شديد الأسف يخشى الناس قول الحقيقة.
لذا كانت المجالس منتخبة على مستوى عالٍ من العلم والثقة والديانة والتحري، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للحق، وتطبيقاً للوائح، وإبعاداً للهوى والمصالح الشخصية.
النتيجة:
كيف نخرج من هذا المأزق؟
هذا السؤال هو مربط الفرس في الموضوع كله، والعملية ليست فردية بل مؤسسية، ابتداء من القسم وانتهاء بمجلس الجامعة مروراً بمجلسي الكلية وعمادة الدراسات العليا، ويتحمل تبعة كبرى رؤساء الأقسام العلمية ووكلاء الكليات للدراسات العليا.
من مقترحات من عرض للموضوع:
تلافياً للسلبيات وهي كثيرة، ولكن لعل فيما ذكر ما يكفي للقناعة بوجوب حل المعضلة، وهي المناقشات والتقديرات الهلامية، وخلاصة ما طرح من حلول ما يأتي:
تذكير الجميع بتقوى الله سبحانه وتعالى وعظم الأمانة، وخطورة المسؤولية.
وضع لوائح داخلية في الكليات أو ما يشبه القواعد التنفيذية التي تحدد الصلاحيات والواجبات على الطالب في المناقشة وما يجب عليه أن يلتزمه فيها، والمشرف والمناقش وما يجب عليهم تحقيقه في المناقشة، وضبط مسارها ضبطاً علميّاً ونظاميّاً.
وضع معايير واضحة ومحددة لتقويم الرسالة، وبيان الشروط الواجب توافرها لكل تقدير من تقديرات الدرجة.
وضع آلية واضحة ومحدد تستطيع الأقسام من خلالها التصديق على النتيجة أو الاعتراض، وأن يعرفها المشرفون والمناقشون فلا يلام أحد، وتسلم النفوس من الحزازات، وربما يكون هذا هو الأبرأ للذمة؛ لأن الاعتراض على النتيجة سيكون من خلال هذا التنظيم الواضح لعرض النتائج، حتى لو لزم الأمر أن تكون لجان في الأقسام لمراجعة النتائج وضبطها.
تسجيل المداولة أو حتى تصويرها، فيه حفظ لحق الطالب من تحامل المشرف لو حدث، ولو رفع تظلماً يرجع إلى تسجيل المداولة، وينظر فيه عند الحاجة، ويصبح الأمر موثقاً إحقاقاً للحق، وإنصافاً للجميع.
مما طالب به الكثيرون رفض المجاملات في المناقشات التي أدت إلى ضعف المخرجات العلمية، وتحولت لجان المناقشة إلى جلسات فقدت الجدة والموضوعية، وصارت المجاملات نوعاً من اللباقة المزعومة تغطي ضعف العمل وهزاله، أو عدم جدية المناقش في قراءة العمل كله.
هذا والله تعالى أعلم، وهو الهادي والموفق.