حملت زيارة صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز لسماحة المفتي العام في المشفى بعد تكليفه بمهام «ولي ولي العهد» معنى كبيراً ودلالة عميقة في سياق التطورات الحكيمة التي يشهدها النظام السياسي بروح إصلاحية وبعد نظر، وفي إطار النظام الأساسي للحكم القائم على مقاصد الشرع الحنيف ومبادئ الشورى الشرعية.
وقد شخّص اللقاء بين سمو الأمير وسماحة المفتي واحدة من العلاقات التي أكّد عليها ديننا الحنيف، كتاباً وسنة، وهي الأكثر تعقيداً وحساسية في السياسة الشرعية بين الراعي والرعية منذ الخلافة الراشدة حتى اليوم، وهي علاقة العالِم بالحاكم، ركيزتان قام عليهما نظام الحكم, وضَمِن الاستقرار والأمان رغم العواصف والأزمات التي قد تمر بها الدولة والأمة. ولقد تفرّدت الحضارة الإسلامية عن مثيلاتها من الحضارات الإنسانية، ومما أبدعته وقدمته للمسلمين وغير المسلمين، فيما يتعلق بشؤون الحكم وسياسة الرعية، نظام البيعة. وتجدر الإشارة إلى أن الأمم والحضارات السابقة للإسلام لم تعرف نظام البيعة، بل إن القانون الدولي التقليدي والمعاصر لم يسبق أن تناول أو عرف هذا الأسلوب في إضفاء الشرعية على اختيار الحاكم وتداول السلطة بين جيل وآخر. وإذا كانت البيعة تعني المبايعة والطاعة، حسب شروط الإمامة، فإنها في بُعد آخر تتصل بمفاهيم سياسية ودستورية حديثة ظهرت مع نشوء المفاهيم الحديثة للدول، كما أنها بالمصطلح المعاصر تعاقد سياسي واجتماعي بين عامة الناس وولي أمرهم في إطار الرضا والتعبير عن الإرادة الحرة كما نطلق عليه في علم القانون.
فالبيعة هي عهد على الطاعة, وإنفاذ مهمات الحاكم الذي يقع عليه الاختيار على أكمل وجه، وعلى رأسها سياسة الدين والدنيا على مقتضى شرع الله. وكما هو معلوم، فإن الإسلام لم يفرّق في أخذ البيعة بين الرجل والمرأة أو بين الكبير والصغير، وهذا يدل على حس تربوي للمواطنين تنبه له الشارع، حيث يلقن الإسلام المسلمين أهمية المساهمة في الارتقاء بمجتمعهم وأمتهم.
ويعتبر استحداث منصب «ولي ولي العهد» اجتهاداً سياسياً وفقهياً يستند إلى فهم عميق واستراتيجي للواقع السياسي المحلي وللتطورات الإقليمية والدولية، كما يجد له جذوراً في تاريخ أنظمة الحكم وانتقال السلطة بشكل شرعي وسلس خلال حكم الدولتين الأموية والعباسية.
ويستمد هذا التعيين شرعيته من شرعية صاحب التعيين, ومن تأييد ورغبة سمو ولي العهد, ومن النظام الأساسي للحكم وأنظمة ولوائح هيئة البيعة، وأيضاً من المبايعة التي جاءت من جميع أطراف المملكة، وهو بذلك يكتسب أقوى درجات السمو القانوني، كما أضفت عليه شخصية الأمير وخبرته ومساره المهني وسيرته الإنسانية طابعاً خاصاً يكشف عن حكمة اختيار ولي الأمر لسمو الأمير لمثل هذه المهمة في لحظة تاريخية ينظر العالم إلى مملكتنا باهتمام كبير ولمستقبل المنطقة العربية من حولها والعالم الإسلامي في قلب انشغالاتها. ليس استحداث هذا المنصب السامي بعيداً عن روح النظام الأساسي للحكم وأنظمة ولوائح هيئة البيعة، بل هو من طبيعة التفكير الاستراتيجي الذي تتمتع به القيادة الرشيدة، كما عودتنا قيادتنا - خاصة في مثل هذه اللحظات المفصلية - على قرارات بحجم التحديات والانتظارات التي يرغب فيها المواطن، وأيضاً الترقبات التي تأتي من محيطنا الإقليمي والدولي.
إن هذا التعيين هو خيار ضمن رؤية إستراتيجية ومقاربة شاملة أعربت عنها قيادتنا خلال الشهور الماضية لترتيب شؤون دولتنا وتلبية احتياجات مجتمعنا تحت قيادة جيل جديد من رجالات الدولة الحديثة يجمعون بين الشرعية التاريخية والدينية والمشروعية الشعبية والحنكة السياسية والدراية بشؤون البلد وشؤون ومستقبل عالمنا العربي والإسلامي وقضايا العالم والإنسانية أجمع.