افتتح صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، اول أمس الأربعاء، 2 جمادى الآخرة 1435هـ، الموافق 2 أبريل 2014م، مؤتمر الجزيرة العربية الخضراء، الذي تنظمه الهيئة بالتعاون مع جامعة أكسفورد، في مدينة أكسفورد البريطانية، وتستمر أعماله لمدة ثلاثة أيام، بحضور الأمير سلطان بن فهد بن عبدالله، رئيس القسم السياسي في السفارة السعودية بالمملكة المتحدة، ومعالي رئيس هيئة المساحة الجيولوجية السعودية الدكتور زهير بن عبد الحفيظ نواب، ومشاركة علماء آثار وبيئة من المملكة المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وعدد من دول العالم، ويناقش العلاقة بين التاريخ البشري والتغير المناخي في الجزيرة العربية.
وفي البداية تم عرض كلمة لصاحب السمو الملكي الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا أمير ويلز الذي لم يتمكن من الحضور ورغب في تقديم كلمة مسجلة لاهتمامه بموضوع المؤتمر، عبر فيها عن حرصه على هذا المؤتمر الذي يركز على قضيتين رئيستين تقعان ضمن اهتمامه الخاص وتحظيان بمتابعة كبيرة في دول العالم، هما فهم الحضارات والتغيرات المناخية التي أدت عبر العصور لتبدل وجه الأرض وبالتالي تباين مواقع الاستيطان البشري.
وأوضح أمير ويلز أنه يرى احتضان جامعة أكسفورد للمؤتمر الذي يركز على بقعة جغرافية مهمة جداً ليؤكد لنا بالأدلة العلمية التي توصل لها الباحثون السعوديون وباحثو أكسفورد والبعثات الدولية الأخرى، أن الجزيرة العربية بالحضارات التي نشأت فيها أو مرت عليها، وآخرها الدين الإسلامي العظيم، كانت دائماً مؤثراً كبيراً في الثقافة الإنسانية وعنصراً مهماً في الحوار بينها.
من جهته قال الأمير سلطان بن سلمان في كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر إن مشروع «الجزيرة العربية الخضراء» - الذي يستعير هذا المؤتمر عنوانه-، وتعمل عليه الهيئة العامة للسياحة والآثار من خلال فرق علمية سعودية تساندها فرق من علماء الآثار من مراكز بحثية مرموقة عالمياً، يعد عنصراً مهماً في مشروع أكبر هو مشروع « الملك عبدالله للعناية بالتراث الحضاري» الذي صدرت موافقة مجلس الوزراء الموقر عليه منذ أسابيع قليلة، والهادف لإعادة الاعتبار للآثار والتراث الوطني، ودراستهما وفهمهما وربط المواطنين بهما، بوصفهما صفحات مشرقة لتاريخنا المشرق والذي توجه شروق شمس الإسلام فيه وفي أرضه متنزل الكتاب ومنها مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أرضها الحرمان الشريفان، وهو ما يمثل أهم قيمة يتمسك بها مواطنو هذه البلاد ويفخر بها سكان الجزيرة العربية منذ القدم، وكذلك العناية بمواقع الآثار وشواهد الحضارات السابقة للإسلام والتي عقبها الإسلام وأظهره عليها ولم يهمشها أو يهدمها، وإنما احترمها وأبقاها ليستمر الفهم وتتصل العبرة، وما تلى ذلك من شواهد التاريخ الإسلامي في العصور المتتابعة وصولاً إلى التاريخ الحديث والذي تحفظ لنا آثاره ومواقع التراث العمراني المنتشرة في كل شبر من المملكة حكاية إسهام أبناء المملكة دون استثناء تحت قيادة الملك عبد العزيز في بناء أعظم وحدة حصلت في العصر الحديث، وتقريب هذا التسلسل التاريخي العظيم من أذهان المواطنين وقلوبهم، وبالأخص فئة الشباب، للرفع من اعتزازهم بتاريخيه وتهيئتهم لإكمال مسيرة التقدم الحضاري الذي دائماً يملكها إنسان الجزيرة العربية، وكان عليها آباؤهم في المملكة العربية السعودية المحبين لبلادهم في كل حالاتها، ولتبقى الآثار مكوناً أساساً ضمن هويتنا الوطنية.
وأكد سموه أنه «ما كان لهذا الاجتماع أن يتحقق، ولا الوصول إلى هذه المرحلة من الفهم للحضارات التي مرت على الجزيرة العربية، و التوسع في بعثات التنقيب، ولا للعناية الكبيرة بمواقع التاريخ الإسلامي وكل ما يرتبط بالتراث الوطني ما كان لذلك جميعه أن يتحقق بدون توفيق الله ثم الدعم الكبير الذي نجده من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يعد الملهم الأول لجهود العناية بالتراث الوطني، والموجه الدائم باستمرار دراسة التراث بشكل أكبر والعناية بمواقعه لإدراكه - أيده الله - أن هذه البلاد ليست طارئة على التاريخ، وأن ثقلها على المستويات الإسلامية والاقتصادية والسياسية، وتميز مواطنيها في شتى المجالات ليس حادثاً جديداً على هذه المنطقة، بل لا بد لشواهد الآثار أن تثبت تفوق إنسان الجزيرة العربية عبر العصور، وذلك ما تثبته الدراسات المستقلة وتؤكده النتائج العلمية المدققة كل يوم».
وركز الأمير سلطان في كلمته على محاولة فهم الترابط بين المكونات الأساس التي تعرف بها المملكة العربية السعودية عالمياً، إذ أنها مهد الإسلام والقوة الاقتصادية التي جعلتها ضمن أعظم عشرين اقتصاداً في العالم، وهي الثقل السياسي الأهم في المنطقة، و لا يكتمل فهم منطلقاتها، وأسباب استمرارها إلا بمعرفة الجذور التاريخية والتراثية لهذا المجتمع من خلال استقراء الشواهد الأثرية الباقية، ليتضح لنا أن هذه السمات لم تبرز من فراغ، ولم تطرأ مؤخراً بل لكل منها جذوره التي تجعل منه أمراً متوقعاً، وتساعد على إدراك الترابط العميق فيما بينها، وباختصار، لكي نفهم جميع سمات شبه الجزيرة العربية، يجب علينا الابتداء من تاريخها العريق.
وبدأ رئيس الهيئة في تعداد المكونات الأساس التي تعرف بها المملكة بذكر أولها وأهمها وهو بعدها الإسلامي، «إذ الإسلام يمثل المحور الأساس الذي قامت عليه، وحصل حوله التوافق لقيام الدولة الحديثة، والأساس الذي تستمر الدولة قائمة به، وهو الدين الذي نزل في هذه البقعة من الجزيرة العربية، لينتشر منها إلى العالم، متخطياً مناطق استوطنتها حضارات أخرى، ليصبح اليوم واحدا من أسرع الأديان نموا، وقدرة على التعايش عبر العصور وبمرور الأزمنة والمتغيرات الحياتية لما يتسم به من مرونة وشمولية وضعها الخالق سبحانه في الدين الخاتم للأديان والباقي إلى قيام الساعة».
وأبان سموه أن البعد الآخر الذي تعرف به المملكة اليوم هو مكانتها الاقتصادية، حيث يستطيع أي متابع للتسلسل التاريخي أن يلمس أن شبه الجزيرة العربية كانت غنية لحقب طويلة قبيل اكتشاف النفط، وهذا يؤكد بشكل واضح أننا شعب المملكة لسنا «غريبين على النعمة»، وأن ازدهار الأنظمة الاقتصادية التي قامت على التجارة وطرق القوافل لم يكن ممكن التحقيق بدون سكانها، وأن أحفاد تلك الشعوب وهم مواطنو المملكة العربية السعودية الذين يعيشون مرحلة التحديث ويوظفون الثروة لتحقيق التطور اليوم، قادرون على مواصلة ما بدأه أسلافهم الذين مارسوا التجارة مع القوافل الوافدة من كل حدب وصوب، ومنحوها الحماية على مدى التاريخ، و بقي معهم العزم والتوثب والانفتاح لبناء حضارة عظيمة نرى شواهدها اليوم في الدولة الحديثة.
وعرج سموه على المكون الثالث من سمات المملكة وهو حضورها السياسي والاجتماعي في مسرح الأحداث العالمية، حيث تقف المملكة العربية السعودية اليوم على المسرح الدولي صوتاً للسلام والاستقرار بحكم أنها تلعب دوراً مركزياً في الشؤون الدولية مع تحمّل مسؤولياتها الإنسانية بكل ثبات وإصرار. والمبادرات التي اطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظه الله - مثل حوار الأديان وحوار الحضارات- لم تأت من فراغ بل هي شواهد على هذا الدور العالمي، وهو دور يمارسه ورثة تاريخ طويل من التفاعل بين الحضارات والتبادل الثقافي، وهذا يكسبنا في المملكة العربية السعودية القدرة والامكانية كي نمارس القيادة لتحقيق التفاهم المتبادل والسلام وتأمين مستقبل الإنسانية، إذ إن الاستقرار هو أساس الحضارات العظيمة، فيما الجغرافيا والتاريخ توجب علينا لعب دور محوري في العالم وفي الشؤون الإنسانية.
وعبر الأمير سلطان بن سلمان عن سعادته كون البحوث العلمية، التي تعرض في هذا المؤتمر، تظهر أن التغييرات المناخية المتتالية التي تتراوح من حقب الجفاف إلى مواسم الأمطار التي عمّت أرجاء شبه الجزيرة العربية - وهو ما أثبتت المكتشفات الحديثة وجود بحيرات وأنهار قديمة كانت السمة العامة للجزيرة العربية، ولتخبرنا أن هذه البحوث والمكتشفات ما هي إلا مجرد بداية لمشروع «الجزيرة العربية الخضراء»، وتثبت بالدليل العلمي نبوءة نبينا صلى الله عليه وسلم قبل خمسة عشر قرناً حيث قال صلى الله عليه وسلم: « لن تقوم الساعة حتى تعود الجزيرة العربية مروجاً و أنهاراً» وهي دلالة قطعية على أنها كانت كذلك من قبل.
وبين سموه أن الهيئة العامة للسياحة والآثار تثمّن بشكل كبير هذا التعاون في حقل الاكتشافات الأثرية والتي تحظى بدعم كامل من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمير سلمان بن عبد العزيز يحفظهما الله، لتضع أهمية عظيمة على بعثات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار، كاشفاً أن الهيئة تعمل بشكل غير مسبوق بالتعاون مع 30 فريقا علميا في مناطق المملكة المختلفة مع بعثات آثار من دول عدة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان وبلجيكا وبولندا وفنلندا والنمسا - إضافة الى الجامعات السعودية ونخبة من العلماء المتخصصين في الحقب التاريخية المختلفة، والجيولوجيا، و يشارك فيها مؤسسات وطنية مثل الهيئة السعودية للحياة الفطرية، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وهيئة المساحة العامة، وهيئة المساحة الجيولوجية، وهيئة الأرصاد وحماية البيئة، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وجامعة الملك سعود وجامعة حائل وجامعة جازان.
وخلص الأمير سلطان إلى أن الاستكشافات الأخيرة وعلم التاريخ، تؤكدان أن الدور الذي تمارسه المملكة العربية السعودية حاليا، والذي ستستمر فيه مستقبلاً، ليس وليد مصطنع، أو طارئاً على التاريخ بل ينبثق من صلب موقعها الطبيعي كوريثة لحقب متلاحقة من الحضارات العظيمة وكونها قبلة أنظار العالم الإسلامي.
وأعلن الأمير سلطان في ختام كلمته أن الهيئة العامة للسياحة والآثار، وبالتعاون مع مؤسسات أخرى مثل جامعة أكسفورد، ستقيم وحدة أبحاث دائمة تسمّى «مركز الجزيرة العربية الخضراء» يكون محور اختصاصها دراسة البيئات الطبيعية والتغيرات المناخية القديمة وعلاقتها بالإنسان الذي تعايش معها أثناء سعية للتأقلم مع البيئة الطبيعة المتغيّرة.
بعد ذلك ألقى البروفيسور هيكولاس رومينز نائب رئيس جامعة أكسفورد، كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أكد فيها على أن الجامعة تعتز بالفرصة العظيمة التي أتيحت لها ضمن فريق علمي سعودي دولي للمساهمة في استكشاف الآثار في بقعة مهمة من العالم شكلت موطناً للحضارات القديمة، وأسهمت في التاريخ البشري، وأثرت الثقافات والمعارف الإنسانية، والتي يصعب فهمها دون دراسة متعمقة لذلك الموقع الذي يقع في قلب العالم، ويحظى منذ القدم بأهمية جيوسياسية، فيما عرض الدكتور ريك توجس من معهد سميثسونيان، ورقة عمل بعنوان «تغير المناخ والإنسان»، وأبرز البروفيسور مايكل بتراقليا منسق المؤتمر ورئيس فريق جامعة أكسفورد في مشروع «الجزيرة العربية الخضراء» التعاون البحثي المشترك بين الهيئة العامة للسياحة والآثار، وجامعة أكسفورد، ضمن فريق مشروع الجزيرة العربية الخضراء، والذي بدأت دراساته الأولى عام 2009م، وتم تجديدها لسنوات خمس يتم فيها تنفيذ أعمال التنقيبات والدراسات الميدانية ضمن منظومة الفرق العلمية السعودية الدولية العاملة على المشروع اعتباراً من عام 2012 وحتى 2017، مبدياً سعادته وفريق جامعة أكسفورد لإتاحة الفرصة لهم للمشاركة في دراسة العمق التاريخي للجزيرة العربية وتعاقب الحضارات التي عاشت وتكونت على أرض الجزيرة العربية على مر العصور.
ويتضمن جدول أعمال مؤتمر الجزيرة العربية الخضراء، عقد أربع جلسات عمل يتحدث فيها علماء آثار وبيئة من المملكة العربية السعودية، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وجنوب أفريقيا، والمغرب، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وأستراليا، وأيرلندا، والسويد، وألمانيا.