وما أحد كان المنايا وراءه
ولو عاش (أعواماً) طوالاً بسالم
الموت وراء كل كائن حي في هذا الوجود مهما طال به الزمن، وأُعطي فسحة من العمر. فمن نعم الله على عباده أن آجالهم مغطاة في ضمير الغيب، لا يعلمها إلا الخالق جل ذكره، وقد أخفاها لحكمة يعلمها لأجل إخلاص العبادة له وحده، ولأجل عمارة هذا الكون العريض؛ ليتناموا، ويسير بعضهم في مناكب الأرض لطلب الرزق ولقضاء مآربهم، والتفكر في مخلوقاته من كائنات وغيرها؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم بعظمته وسعة ملكه، وليخدم بعضهم بعضاً؛ فيسعد الجميع بتيسير أمورهم الخاصة والعامة:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم وطبائعهم، فمنهم من يوفقه المولى في أعمال الخير، وبسط في الرزق، ومنهم من يمنحه طول عمر، ويرزقه ذرية صالحة تقر عيناه بهم، وذلك من سعادة الإنسان، وهذا يذكرنا بما اتصف به أبو محمد الحبيب إلى قلوبنا الشيخ إبراهيم بن محمد الدهمش، الذي تزامن رحيله وغيابه عن أسرته وعن محبيه مع غروب شمس يوم السبت 28-5-1435هـ بعد رحلة طويلة جداً قضاها في عبادة، مع ما صاحبها من كفاح وتعب في طلب الرزق المباح.
ويُعتبر أبو محمد من كبار المعمرين، وقد أُديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الأحد 29-5-1435 في جامع الحزم بمحافظة حريملاء، وقد ضاقت أرجاء المسجد بالمصلين رجالاً ونساءً داعين المولى أن يسكنه عالي الجنان، ثم تبعه خلق كثير إلى مراقد الراحلين بمقبرة (صفية) إلى أن يأذن الله لجميع الخلائق بالنهوض من أجداثهم ليوم الحساب ونصب الموازين القسط. وقد خيم الحزن على أجواء حريملاء وعلى بيوت أبنائه ومحبيه. ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حال أبنائه وأسرته وهم ينفضون الغبار (غبار قبره) عن أكفهم ومحاجر عيونهم تضيق بدمعات حرى حزناً وأسفاً على فراقه بعدما غاب والدهم الحبيب إلى قلوبهم في باطن الأرض - كان الله في عونهم، وتغمد الفقيد بواسع رحمته ومغفرته:
فلا تبكينّ في إثر شيء ندامة
إذا نزعته من يديك النوازع!
ولقد وهبه المولى طولاً في العمر وسعة في الرزق؛ إذ تربع على (الهنيدة) (أ) مع عدد من السنين بكامل صحته تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً وذرية صالحة تجدد ذكره الحسن بالدعاء له، وبالأعمال الخيرية المباركة التي يعود أجرها له.
ولقد وُلد - رحمه الله - في حريملاء عام 1330هـ تقريباً، وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه، ومع رفاقه ولداته، وعند بلوغ السادسة من عمره ألحقه والده بمدرسة تعليم الكتابة والقراءة بمدرسة تحفيظ القرآن الكريم لدى المقرئ المطوع حمد بن عبدالرحمن بن داود، ولدى المقرئ بن عبدالمحسن المقرن راعي بلدة القرينة، ثم تلا القرآن الكريم كاملاً نظراً على الشيخ المطوع محمد بن عبدالله الحرقان مع حفظ بعض قصار السور - رحم الله الجميع. وعندما تجاوز سن العاشرة من عمره شعر بأنه بحاجة إلى أن يعيش حياة عز وكرامة، رغم صغر سنة، فأخذ يعمل لدى بعض الفلاحين في مزارعهم ونخيلهم أعمالاً تتناسب مع مقدرته بأجر زهيد جداً؛ وذلك لندرة الريال بأيدي الناس آنذاك. وبعدما كبر واشتد ساعداه أخذ يعمل ويشتغل بأعمال مختلفة داخل حريملاء، ثم شخص إلى الرياض مع بعض رفاقه، وعمل لدى الناظر والمشرف على نخيل ومزارع جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - الذي إذا حضر جلالته فرحوا بحضوره؛ إذ يمنحهم ويشرههم بما تيسر من نقود وملابس.. ويتناولون طعام الغداء أو العشاء من على مائدته بعدما ينهض من المكان. وعندما توافرت النقود عند أبي محمد عاد إلى مهوى رأسه حريملاء، فاقترن بأم محمد ابنة عمتي - رحمهم الله - فأنجبت له ذرية صالحة، وعاشا معاً حياة سعيدة ملؤها الود والتآلف وقرة العين فيما خلفوه من ذرية صغاراً وكباراً إلى أن فرقهما هاذم اللذات ومفرق الجماعات.. وهذه سُنة الحياة، تجمع وتفرق:
كم من جميع أشت الدهر شملهم
فكل شمل جميع سوف ينتثر!
ثم أخذ يعمل فلاحاً في نخل رحب الجوانب، يدر عليه الربح الكثير هو وأسرته. بعد ذلك ترك الفلاحة، وظل يزاول أعمالاً أخرى، وطاب له أن يفتح محلاً (دكاناً) فكان مصدر رزق وبركة، فكثر الإقبال على الشراء منه لما يتصف به من سماحة ولين جانب في تعامله وفي بيعه وشرائه. واستمر في ذلك حتى قبيل رحيله عن الدنيا - رحمه الله - وكان يُقرض المحتاجين بدون أخذ إقرار منهم لطيب خاطره وثقته بمن يقصده.
وقد عمل عضواً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل جد وإخلاص وحسن تعامل مع الجميع حتى تقاعد، كما كان مؤذناً مدة طويلة في المسجد الأثري (مسجد قراشة) بالبلد القديمة، ثم بالمسجد المجاور لمنزله بالحي الجديد، واستمر قرابة الأربعين عاماً حتى أقعده المرض.
وكان لي معه ذكريات جميلة، لا تغيب عن خاطري، أجملها رحلتا الحج في أواسط الثمانينات ومعه نجلاه الكريمان محمد وحمد - رحمه الله - وكان مجلسه لا يمل، وقد خصص بعد مغرب كل يوم لاستقبال من يزوره من الجيران والأصدقاء، بل الاجتماع بأسرته ذكوراً وإناثاً صغاراً وكباراً؛ ليأنس بهم ويأنسوا به قبل أن يغمض شعوب عينيه ويبعده عنهم بعداً لا يرجى إيابه أبد الأيام والليالي:
وأحسن الحالات حال امرئ
تطيب بعد الموت أخباره
يفنى ويبقى ذكره بعده
إذا خلت من شخصه داره
ولك أن تتصور حال بنيه ومحبيه إذا دخلوا مجلسه وقد خلا مكانه بعده من تحسر وتأوهات أسفاً على فراقه ورحيله عنهم، فلسان حال كل منهم يردد هذا البيت:
يعز علي حين أدير عيني
أفتش في مكانك لا أراك
كان الله في عونهم، وجبر مصيبتهم فيه. رحمه الله رحمة واسعة، وألهم أسرته وأبناءه وابنته الوحيدة وجميع محبيه الصبر والسلوان.
(أ) الهنيدة: مئة عام