يحمل أمر تعيين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً لولي العهد في سياق إقليمي ودولي يطبعه التوتر والتحولات المتسارعة دلالة قوية على الرؤية السياسية الواقعية التي تتمتع بها قيادتنا وقراءتها العميقة للمشهد السياسي.
ويتجلى البعد الواقعي في هذا القرار الحكيم في كونه يعالج واحدة من أدق المراحل التي قد تمر بها الدول عبر التاريخ، وتكون حياله أمام خيار صعب ولكنه استراتيجي، وهو إعداد القادة الجدد وتهيئة الصف الثاني والثالث من القيادات السياسية التي ستتحمل إدارة شؤون الدولة باقتدار وحنكة وتبصر، خاصة في إقليم عربي وسياق عالمي تطبعهما أحداث عظيمة وجسيمة وخطيرة من شأنها أن تعيد رسم النظام العالمي والتنظيم الدولي، وقد يتولد عنها مؤسسات ونظم دولية ووطنية قد لا تنتمي لما كان عليه العالم غداة الحرب العالمية الثانية.
إن ثمة واقعية سياسية تعمل على تحديد وضع الدولة في بيئة آمنة ومستقرة والاعتناء بالمجتمع على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مجتمع يعي حجم وطبيعة المخاطر التي تعصف اليوم بمستقبل دول، هي واقعية تلامس بدقة ما يجب أن يتخذ من قرارات شجاعة لسد الذرائع وتحقيق حالة من التلاحم والانسجام بين مؤسسات الدولة والقيادة والمواطنين.
يكشف لنا هذا الأمر الحكيم إدراك القيادة السياسية لطبيعة ومستقبل التحولات المتسارعة في المنطقة والحاجة إلى قيادات جديدة تربت كذلك على يد الملك المؤسس رحمه الله، أو عبر فترات حكم متنوعة ببلادنا تعتبر مدارس لتعليم فنون الحكم والقيادة، قيادات ستساهم بالتأكيد ومن مختلف المواقع في إدارة شؤون الدولة ببعد نظر وحكمة.
إن تعيين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز في هذا المنصب السامي، في سياق سلسلة من التعيينات السامية التي شهدتها المملكة خلال الشهور القليلة الماضية، هو أيضاً رسالة تطمين موجهة للرأي العام الوطني والعربي والإسلامي والعالمي، مفادها أن المملكة العربية السعودية لها من أبنائها وقياداتها ما يعزز دورها الإقليمي والدولي في الاستقرار والحوار الثقافي والحضاري الإنساني، ومعناها أيضاً أن المملكة ستبقى مهمومة بقضايا أمتها وتستشعر المسؤولية التي قلدها الله سبحانه وجعلها قلب الإسلام النابض وفي خدمة الأمة الإسلامية، بل وفي خدمة بني الإنسان من غير المسلمين الذين لا تتردد حكوماتهم عند المصائب والشدائد في أن تطلب مساعدة المملكة ودعمها.
أرى وبكل اعتزاز - كمتخصص في القانون - أن هذه التجربة الدستورية المميزة التي يقودها خادم الحرمين الشريفين من خلال اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة ابتداءً من إنشاء هيئة البيعة ووصولاً إلى استحداث منصب «ولي ولي العهد» تشير بوضوح لحنكة سياسية وقانونية ، وتبيّن لنا وللمختصين والمراقبين والمحللين حجم النضوج السياسي لدى القيادة الحكيمة وفهمهم العميق لمتطلبات المرحلة ، وهي تجربة يجب أن تُدرَّس في مقررات القانون الدستوري في الجامعات كسبق دستوري تميزت به المملكة.
لقد جمع الله للمملكة كل أسباب السبق والريادة، فهي من حيث السبق مهد الرسالة الخاتمة وبلاد الحرمين الشريفين اللذان يتطلع إليهما قرابة ملياري مسلم، ومن حيث الريادة تتوجه إليها أنظار العالم الإسلامي اليوم وشعوبه في محنها واحتياجاتها، بل والإنسانية أجمع.
ينظر العالم اليوم إلى المملكة أكثر من أي وقت مضى على أنها رمز الاعتدال الديني الوسطي ومرجع الواقعية السياسية لفهم التطورات والصراعات الإقليمية والدولية وليست زيارة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما لبلادنا اليوم إلا اعترافاً بهذه الرمزية والمرجعية، ومحاولة لفهم أعمق للفكر السياسي الاستراتيجي الذي تعبر عنه قيادتنا الرشيدة بقوة في استقلالية تامة لقرارها السياسي.