لم أكن أتوقع أن تأتي تلك اللحظات والتي نُهيل التراب على شفير قبر أبي عبدالله في يومٍ مهيب ومشهد مؤثر! نُبسمل مع كل حفنة من ترابه، تلكم هي سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، تذكرتُ حينها كلمة أبي عبدالله رحمه الله «بسم الله ..» التي لم تَغب عن مسمعي ومسمع من يُصلي بجانبه طيلة أكثر من عشرين عاماً .. من حين ما يُقارب خُطاه إلى المسجد ذاهباً وراجعاً وأثناء مكوثه في المسجد ساجداً وقائماً، وعند استفتاحه السور من القرآن، كان يلهج بذكر الله وتسبيحه وحوقلته.
وإن من إحسان الظن بالله سبحانه واستبشار المرء به أن من شاب على شيء شاب عليه، حيث كان له رحمه الله ورد يومي من آي القرآن يتلوها صباح مساء، فقبل أن يختاره الله إلى جواره بساعات قلائل، طلب من ابنه البار - ماجد - ومن حوله أن يقرأ عليه سورة « ق « وكنتُ ممن قرأ عليه هذه السورة وآيات كان يختارها هو رحمه الله في ورده اليومي وكان ذلك من اليقين الذي حباه الله إياه أنه موقن بأن الموت حق.. ! « وجاءت سكرة الموت بالحق.. « وهذا من صميم الإيمان الذي يَنعم به العبد عند حضور الأجل.. حتى بدأ يلهج بلسانه ب لاإله إلاّ الله.. ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنة « فتلك عاجل بشرى المؤمن يُوفقه الله إلى عمل صالح ثم يتوفاه عليه.
ولئن كان الناس شهود الله في أرضه وعلى مدى أكثر من عشرين عاماً، فإني أعتبره كما اعتبره من كان قبلي.. وجه من أوجه البر والإحسان بذلاً وإنفاقاً.. في مواقف لا أحصيها يأتي مَنْ ألمّتْ به ملمات الحياة.. ويرجع ويمينه ملأى من يمين - المُنفق - أبي عبدالله أسبغ الله عليه سحائب مغفرته ورضوانه.. وإذا كان كريماً في ماله فلا غرابة أن يكون كريماً في جاهه ووجاهته أيضاً! فالشفاعة الحسنة مطيته - دائماً - وكان يقول - رحمه الله - البخيل من بَخُلَ بجاهه - فلا ينظر إلى صغر المشفوع له وكِبَره بقدر ما ينظر إلى النصيب الأخروي الناتج عنها، يشفع للغني والفقير والذكر والأنثى ويتلمّس حاجات جيرانه صغيرهم وكبيرهم.. ورأيته مراتٍ يمسح على رؤوس اليتامى ويسأل عن حالهم بل سعى في توظيفهم ونقلهم إلى أهليهم.. وكان من لطفه أنه يُعينهم على الزواج ويحثّهم عليه.. حتى مازح ممن كان قد أعانهم على الزواج وبعد مجيء الولد سائلاً الزوج ما قدر الولد عندك بقدر مهر الزواج!
لا تسلْ عن قلبٍ طيب خاشع يتأثر بالقرآن تلاوة وسماعاً.. ! سمعته أكثر من مرة في ورده اليومي قبل الصلاة يُردّد وهو يبكي.. « وجاءت سكرة الموت بالحق.. «وفي صلاة التراويح له حالة خاصة وعناية مُبكية عند سماع القرآن فله نشيج وأزيز كأزيز المرجل عند سماعه لآي القرآن والآيات تُخاطب الفؤاد.. أو تنعى نبياً عند فقد ولده.. أو تسبيح وتمجيد للواحد القهار.. فلا تسمع إلاّ همهمته بتسبيح الودود - سبحانه - كلٌ قد علم صلاته وتسبيحه.
وإذا كان الجشع والطمع قد طغى على نفوس تجار البلد ووجهائه.. فلم يتمكن الجشع والطمع من التسلل إلى نفس الشيخ الفاضل المربي التاجر والوجيه - ناصر بن سليمان العُمري - غفر الله له.
فقد زرتُه مرة من المرات المباركات والتي نأنس بمجالسته فيها.. عندما أبرق برقية إلى سمو وزير الداخلية آنذاك الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله يُطالب فيها بتخفيض رسوم الكهرباء على المواطنين فلم يمنعه كونه يمتلك نصيباً كبيراً من أسهم التأسيس، مُترجماً فعله بإيمانه بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : « لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يُحب لنفسه « مواطن صادق في إيمانه مُخلص لدينه ووطنه.. له رؤية مستقبلية كان يراها قبل أكثر من سبعين عاماً.
قلّ من يفعلْ مثل فِعْله ويدعو مثْل دعائه سراً وجهراً.. كان يدعو لأمه وأبيه وشقيقيه صالح وإبراهيم وذي رحمه في كل سجدة يقترب فيها من ربه لأنه موقن في الإجابة ويعلم أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.. فأكثر من الدعاء وطلب المغفرة يدعو لهم ويُسميهم بأسمائهم.. مستناً بدعائه في نبيه صلوات الله وسلامه عليه «.. أو ولد صالح يدعو له.. «
تلكم عمله وفعلته مع قومه وعشيرته صدقاً وإخلاصا ودعاء ومناجاة - نحسبه كذلك.. رحمه الله رحمة المحسنين.
كانت همة التعليم وتعليمه ونشر كتب السلف والخلف مهتماً بها بشكل خاص، فقبل عقد من الزمن سألني - رحمه الله - عن طبعة لصحيح البخاري كما صنفها الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله وسألني عن طبعة لتفسير الحافظ ابن كثير كما فسرها الحافظ، بعد ذلك علمتُ أنه يريد طباعة نُسخاً منها فطبعها على نفقته الخاصة ثم وزعها بالمجان على طلبة العلم والمكتبات الجامعية داخل وخارج المملكة.
يُحب القرآن وأهل القرآن كيف لا! والقرآن صاحبه منذ صغره.. بل أوقف شيئاً كبيرا من ملكه لتحفيظ القرآن وتعليمه، في رمضان عام 1432هـ أعطاني نسخة من المصحف الشريف لأجعلها وقفاً في المسجد فبشّرته بحديث رواه ابن ماجة بسند صحيح «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره , وولداً صالحاً تركه , ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه , أو بيتاً لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته « فرأيت البِشْر في وجهه رحمه الله ولقد صدق القائل في قوله:
لعمرك ما الرزية فقد مال
ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حُرٍّ
يموت بموته خلق كثير
اللهم إن فقراء ومساكين ويتامى قد نالهم فضل وإحسان وبر الشيخ ناصر بن سليمان العُمري في حياته وبعد مماته فأنله فضلك ورحمتك وغفرانك ياكريم ويارحمن ويارحيم.