(عندما تنتهي الحرب في سوريا،
سنغلق أبوابها،
ونضع لافتةً مكتوب عليها،
ممنوع الدخول،
سنبكي من الفرح لوحدنا،
كما عشنا أحزاننا لوحدنا)
(1)
ثمة إمكانية لتجاوز تأثير الإعلام على الشعر، ثم الذهاب فوراً الى ينابيع القصيدة، هناك حيث يمكننا تلمس المعنى الحقيقي للشعر وقدرته على ملامسة المشاعر الإنسانية في صميمها. لكن هذا الكلام ربما يكون مجرد فلسفة لا تعني شيئاً للشعر. الشعر فيما هو مادة تكابد معنى الوجود في كل شيء. في الحب ثمة شعر، في الموت كذلك ثمة شعر، في لقاء الإنسان مع نفسه, وإن كان وقفة أمام المرآة ثمة المزيد من الشعر. الشعر هو الحب في غايته القصوى، هو الذات في أقصى تجلياتها في أعلى مراحل انصهارها لغة وصوراً وكلمات.
غير أن هذا التصور، لا يلزم الشعر بأنماط محددة، واعية لما هو الشكل الذي يجب أن يكون عليه الشعر. هنا، حيث تكمن مشكلة الشعر اليوم، وربما، أشد أزماته التي ينبثق عنها، صراعات لا تحد، بين ما يجب أن يكون عليه الشعر، وكيف يجب أن يكون وما الشكل الخارجي له وإطاره منذ نصف قرن. منذ تشكل فريق مجلة شعر 1960 وصدور الديوان الأول للشاعر الراحل أنسي الحاج (لن) ومقدمته الشهيرة لم يتوقف الصراع بين مدرستين اثنتين. الأولى التي تعتبر في الشعر أن بقاءه مرهون بالحفاظ على المدرسة الكلاسيكية التي ينتمي لها الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى اليوم. والثانية، تلك التي تعتبر أن الشعر جوهر قبل أن يكون شكلاً، فلا أحد والحال هذه يمكنه نكران شاعرية القصيدة الكلاسيكية ومضارعتها ثم تصديها لكافة أنماط الشعر من الهجاء الى المديح، وهي مدرسة خرجّت العديد من الشعراء الكبار الذين لا يزال ذكرهم سارياً حتى اليوم. فشاعر مثل المتنبي على سبيل المثال لا الحصرعاش حتى اليوم ألف عام وقرن ومرجحٌ أن يعيش مثلها وأزود لفرط شاعريته وتمسك المدرسة التربوية العربية بقصائده كما غيره من الشعراء. والحق أن شعراء الكلاسيكية في العصور السابقة، ما كان يهمهم الشكل قدر ما كان يهمهم شعرية القصيدة نفسها، ولذلك، نجد الى جانب المتنبي، إن أمعنا في دراسة شعر ذلك الزمان وما قبله، نجد العديد من الأسماء التي سقطت من الذاكرة الجمعية العربية وبقيت في كتب التراث.
إن الإشكالية المشار لها، بين أنصار القصيدة الكلاسيكية وأضدادهم من أنصار قصيدة النثر، لا تتعلق بالمماحكات الفكرية التي ترد هنا أو هناك، حول شاعرية هذه القصيدة أو تلك. بل في النوايا الإلغائية من كل طرف ضد الآخر. شعراء النثر، اعتقدوا لوهلة لا تزال مستمرة الى اليوم، أنهم سيحلون محل شعراء القصيدة الكلاسيكية، أنهم شعراء الغد، شعراء القادم من الأيام وأن المستقبل لهم وأن الشعر مع قصيدتهم يضرب العلاقة مع التاريخ الشعري العربي دون أن يلغي الشعر السابق رغم أنه يسعى لإلغاء امتداداتها. وفي المقابل، سعى شعراء الكلاسيكية ودعاتها، الى تكسير قصيدة النصر واعتبارها ضحالة خالصة لا تنتمي الى الشعر، وأن النثر ليس شعراً، وأن علاقة شعراء هذه القصيدة بالشعر بعيدة عن الشعر بعد اليابان عن الصين في الثقافة.
برزت على أثر هذا الخلاف نظريات كثيرة،كتبت سجالات لا تعد ولا تحصى، حتى إن العداوة بين الشعراء المجايلين بلغت أوجها وكانت خلافات حتى الموت. لقد شهدت صفحات الصحف الثقافية كما شهدت طاولات المقاهي، صراعات وصلت في أحيان كثيرة، لحد التضارب بالأيدي بين الشعراء، وهذا مرده الى أن حالة من فقدان العلاقة بموروثات الحداثة نفسها.
(2)
بنشر هذه العجالة، يكون مضى على يوم الشعر العالمي يوم واحد (أمس). قصيدة النثر العربية فقدت بريقها، كما فقدت بريقها قصيدة النثر الأم في فرنسا، كما أن قراء الشعر قلة قليلة في العالم كله، وفي العالم العربي هم قلة بين قلة من مجموع القراء الذي يتناقص يوماً بعد يوم، لصالح العلاقة بين الأجيال والتكنولوجيا. يحتفل الشعر العربي بيومه في عزوف القراء عن قراءته ودور النشر عن نشر المجموعات الشعرية إلا لبعض المكرسين الذين يكتبون لمتعتهم الخاصة لا من أجل الشعر، فقد الشعر مشروعه في الثقافة العربية المعاصرة، سواء كان كلاسيكياً أم نثراً. فقدان المشروع مرده لأسباب كثيرة لا تتعلق فقط بأعداد القراء ودور النشر. بل إن مراجعة بسيطة لتطلعات طلاب المراحل الثانوية حول تخصصاتهم الجامعية، تدلنا بما لا يقبل الشك الى أن العزوف عن دراسة المواد الأدبية والتخصصات المحددة فيها، جامعياً، يجعل من العلاقة مع الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص علاقة كارثية. وهي عكسها في فرنسا وبريطانيا، حيث الإقبال على التخصصات الأدبية يشهد إقبالا كبيراً، الى جانب أن معدلات القراءة أرقامها مخيفة إذا ما قورنت بالعالم العربي.
لا أعلم حقيقة بماذا احتفل الشعر العربي يوم أمس؟ هل كان فقط يوماً عادياً نافلاً وبطيئاً على عادة ما تكون الأيام؟ أم كان بالفعل يوماً احتفاليا.