روما - سهيلة طيبي:
فاز المخرج الإيطالي باولو سورنتينو في هوليود بجائزة الأوسكار لأفضل عمل أجنبي عن فيلمه «الجمال الفاتن»، وهو مخرج يحاكي الطراز الفني للمخرج العالمي فدريكو فلليني.
فقد مرت خمس عشرة سنة منذ أن فازت إيطاليا بجائزة الأوسكار، وذلك سنة 1999 مع فيلم «الحياة جميلة» للمخرج الإيطالي والممثل القدير بنيني.. ربما من هذا الباب تستدعي صناعة السينما في إيطاليا متابعة، لإدراك كيفية نشاطها والإحاطة بعوامل نجاحها التي راكمتها عبر السنوات حتى باتت متفردة في عالم الفن.
فهذه السينما تحمل في جعبتها سلسلة من الأعمال التي باتت من التراث الفني العالمي مثل: «روما مدينة مفتوحة» للمخرج روسيلليني، و»سارق الدراجات» لدي سيكا زافاتّيني، وفيلم «الأرض ترتج» لفيسكونتي، وغيرها من الأعمال الجميلة.
السينما الحرفية
سؤال يجدر طرحه في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها أوروبا ولا سيما إيطاليا، هل أثّرت الأزمة على صناعة السينما الإيطالية أيضاً؟ يمكن القول إن الصناعة السينمائية الإيطالية بشكل عام تفتقر إلى نسيج استثماري شبيه بما نجده في قطاعات صناعية تقليدية أخرى وهو ما حصنها ضد آثار الأزمة.. فباستثناء بعض الحالات النادرة، فإن الصناعة السينمائية الإيطالية في عمومها هي متكونة من مئات «المؤسسات الإنتاجية الصغرى».. فليس هناك شركات كبرى، وبلغة مبسّطة هناك «محلات إنتاج».. صحيح يسمع القاصي والداني بالسينما الإيطالية، وبمدارسها، وبنجاحاتها، وإنتاجاتها وتياراتها الفنية أيضاً، ولا سيما مخرجيها العالميين، لكن لم نسمع عن عملاق إنتاج إيطالي شبيه بهوليود الأمريكية أو ببوليود الهندية.. فوفق إحصائيات وزارة الثروة والأنشطة الثقافية الإيطالية، فإن محلات الإنتاج السينمائي في إيطاليا يبلغ عددها 509 محلات، من بينها 351 (بما يساوي 69 % من مجموع النسيج الإجمالي الوطني) هي متواجدة في إقليم لاتسيو، أي محافظة روما وما جاورها.. تليها منطقة لومبارديا في الشمال، أي ميلانو وما جاورها، بـ 52 مؤسسة، وبوليا بعشرين، فصقلية بـ 13 مؤسسة.. فحالة الصناعة السينمائية الإيطالية هي شبيهة بحالة الإعلام التلفزي الإيطالي، كثير لكنه ضيق البث، إلى حد أن هناك تلفزات لا يتجاوز بثها الأحياء والحارات.
سينما نشيطة إنتاجاً واستهلاكاً
وفي ظل هذا الإنتاج السينمائي الوفير والحرفي في الوقت ذاته، تبلغ مداخيل الصناعة السينمائية الإيطالية أكثر من 600 مليون يورو سنوياً، وهي نسبة عالية مقارنة بغيرها في دول أخرى لها إمكانيات شبيهة.. ذلك أن المؤسسات السينمائية الإيطالية هي مؤسسات حرفية، أحياناً عائلية، وأخرى هي مؤسسات فردية، تنتج فيلماً على مدار السنة أو على مدار السنتين.. وهذه الصناعة السينمائية كما نجدها تنتج أفلاماً مكلفة وباهظة الثمن، بمئات الملايين، فهي تنتج أيضاً أفلاماً بمئات اليوروات.
فمثلاً خلال العالم المنقضي تم بيع 140 مليون تذكرة سينما في إيطاليا، وتقريباً لم تؤثر الأزمة على مداخيل الفن الجميل وبلغت 650 مليون يورو، بما يفوق السنة السابقة بأكثر من 50 مليون يورو.. فاستهلاك الفرجة السينمائية لم يتأثر بالأوضاع الاقتصادية؛ لكن يذهب بعض علماء الاجتماع إلى تفسير ذلك بقولهم إن الفرجة باتت هروباً من ضغوطات الحياة المتزايدة مهما كلفت ميزانية الأسرة.. فمعدل التذاكر على مجموع السكان يناهز تذكرتين في السنة للفرد الواحد، مقارنة بثلاث تذاكر في فرنسا، وتذكرتين ونصف التذكرة في المملكة المتحدة. فهناك استهلاك للمنتوج السينمائي في إيطاليا لا يقابله عرض جذاب أحياناً، مما يجعل حافز الاستهلاك ضعيفاً في بعض الأوقات.. فأبرز الأفلام الإيطالية التي حققت مداخيل في الفترة الأخير: «أعياد الميلاد في ريو» و«كبير ضخم... وفردوني»، و«عفواً فقد ناديتك يا حبّي» و«عمّورة».
160 فيلماً عليها ماركة «صنع في إيطاليا»
ففي السنوات الأخيرة ازدادت مداخيل ماركة السينما التي «صنعت في إيطاليا»، أي السينما التي هي مئة بالمئة إيطالية، دون دمج الإنتاج المشترك، مقارنة بالسنوات السابقة.. وبالمثل شهد الإنتاج المشترك تطوراً حافلاً، وبدا الرهان على الإنتاج المشترك مع الإيطاليين مربحاً.. وفي السنة الماضية أُنتج في إيطاليا 160 فليماً إيطالياً، وأما الإنتاج المشترك فقد بلغ أربعين عملاً.. وتساهم الدولة الإيطالية بـ 20 % من قيمة الإنتاج في هذه الأعمال.
تقريباً نجد في إيطاليا ثلاثة موزِّعين رئيسيين يتحكمون بنصف السوق، أي بنصف المداخيل: «يونيفرسال» بـ20 %، و«ميدوزا» بـ17 %، و«ديستريبشيون» بـ11%، تتبعهم «وارنر» بعشرة بالمئة.. فهناك عشر شركات توزيع تمتصّ أكثر من تسعين بالمئة من المنتوج الإيطالي.
في خضم هذا التنافس فإن نصف المنتوج قد اقتنته دور نشر سينمائية متعددة القاعات.. وشركة «سبايس سينما»، التي تسيطر تقريباً على نصف دور السينما في إيطاليا، ترمي إلى تجاوز الثمانية عشر مليون متفرج الذين بحوزتها إلى خمسة وعشرين مليوناً.. حيث يُعرض تقريباً سنوياً في السوق الإيطالية حوالي 450 فيلماً جديداً، أي بمعدل أكثر من عنوان جديد يومياً، لكن يبقى الثلثان من تلك الأفلام هي أفلام أمريكية الصنع.
ربما المعضلة الرئيسة في الوسط الفني الإيطالي، ولا سيما منه في المجال السينمائي، أنه يشكو في الظرف الراهن من افتقاد «سياسة ثقافية» تحفز اقتصاد السينما وتدفع به إلى العالمية.. فبعد التاريخ المجيد لـ»شيني شيتا» - دار صناعة السينما الإيطالية المعروفة - تحولت إلى علبة فارغة محدودة الإنتاج؛ هذا علاوة على هيمنة عصبة يسارية تتحكم بالصناعة السينمائية.. لكن رغم ذلك تبقى السينما الإيطالية سينما مركّبة وخاضعة لتوجهات عدة.. فمثلاً انخرطت السينما الإيطالية في العديد من القضايا العالمية، مناصرةً قضايا التحرر في العالم الثالث وحقوق الإنسان، على غرار الفيلم التاريخي لبونتي كورفو «معركة الجزائر»، الذي تناول حرب التحرير.. ولكن هذه الطليعية لم تسلم أحياناً من الرقابة، ففيلم «عمر المختار» للمخرج السوري مصطفى العقاد حاصرته الرقابة في إيطاليا ومنعت عرضه في دور النشر الإيطالية.