هل ما زال الكتاب هو الكتاب؟.. الكتاب الذي يصرف فيه المرء أجمل لحظاته، ويقضي ليله في البحث والدراسة والتأليف والمراجعة والتنقيح؟.. هل هو الكتاب الذي ألفه الأوائل، التوحيدي وابن عبدربه والجاحظ، بل هل هو كتاب زمن الستينيات الذي ألفه منيف ومحفوظ وهلسا وصنع الله إبراهيم والغيطاني؟ .. أم أن الزمن تغير، وأصبح الكتاب مختلفاً جداً عن هدفه وقيمته وعمقه؟.. هل تحول من كتاب إلى بطاقة تعارف أو «بزنس كارد»؟ كتب الجاحظ في المجلد الأول من مجلدات كتابه الحيوان: الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك.. والكتاب هو الذي يمنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وتعرف منه في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر. وماذا إذا كان العوام -أيها الجاحظ- هم من يؤلف الكتب، وخلال أيام أو سويعات؟.. ولا يملكون أي رعشة خوف أو قلق، وهم يضعون أسماءهم على أغلفتها، ويدفعون بها إلى المطابع بكل جرأة وتهوّر، دون أن ينتابهم تأنيب ضمير.
منذ أن تعلمت القراءة، قبل أربعين عاماً، ومنذ أن غامرت بالنشر قبل أكثر من ربع قرن، وأنا أشعر بارتباك كلما هممت بإرسال كتاب جديد، أو رواية جديدة، إلى الناشر، حتى أنني في إحدى رواياتي لم أجرؤ على طباعتها بورق الآلة الطابعة عندي في البيت، وبقيت حبيسة جهاز الكمبيوتر المحمول أكثر من تسعة أشهر، رغم أنني لا أشكّل شيئاً أمام تجارب الكتاب العظماء، الذين يعيدون كتابة أعمالهم عشرات المرات، قبل أن يملكون الجرأة في إطلاق هذا العمل، وتسليمه إلى الناشر!.
في معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي يقام هذه الأيام، أصاب بدهشة وأنا أقرأ أخبار كاتب شاب، أو كاتبة شابة، يدفع كتابه للنشر، بل ويعلن عنه في المواقع، وبكل ثقة يقوم بحفلة توقيع له، وهو كتابه الأول، وكلنا ندرك ما يعتري الكاتب من خوف وقلق عند نشر الكتاب الأول، خاصة وهو ينتظر ردود أفعال القراء، فما الذي تغيّر؟.
كثير من هذه الكتب، كانت عبارة عن تغريدات في تويتر، أو خواطر في الفيس بوك، قام أصحابها بجمعها، بعدما أشاد بها بعض الأصحاب، أو المعلقون، فقرر هؤلاء بجمعها دون أن يرف لهم جفن، وطباعتها لدى دور نشر تبحث عن مثل هذه الكتب الخفيفة، التي تشبه الساندويتش، تنتهي منها في ظرف دقائق، ولا يتبقى منها شيء، ولا تحتفظ الذاكرة بأي شيء منها، إلى درجة أن أصبحت بعض دور النشر تطبع سنوياً مئات الكتب، لتضيع الكتب الثمينة القليلة في هذا الركام الساندويتشي!.
أعرف أحد الأصدقاء، يعمل على كتاب يتناول هموماً سياسية واقتصادية، أمضى أكثر من خمس سنوات، وهو يعيد الكتابة والقراءة والتمحيص، والمراجعة بدرجة عالية الدقة، فما ذنب مثل هذا الكتاب، حينما يصدر، ويفاجأ مؤلفه بأن بالوعة الكتب الخفيفة قد ابتلعته قبل أن تتاح له فرصة العرض المناسب أمام القارئ؟.