كان الفتى المغترب في الرياض ينقطع انقطاعا تاما عن أسرته ومحيطه الاجتماعي في قريته، وقد يغيب عنهم شهرا؛ بحيث لا يعلم عنهم شيئا إلا حين يلتقي مصادفة بقادم من الديرة؛ فيسأله ويلح في السؤال عن أحوال أهله وأقربائه وجيرانه، وإن سمع من ذلك القادم ما يسوؤه عن أسرته أو أحد المقربين من عائلته؛ فإنه يسرع على عجل إلى محطة القرية لزيارتهم حيث تقف سيارة الأجرة البيجو ضحى كل يوم إلى ما قبل الظهر؛ لتغادر براكبيها الذين يتقاطرون على موقف السيارة بالقرب من دخنة حتى إذا اكتمل عددهم إلى ما يقرب من اثني عشر راكبا متراصين؛ انطلق بهم قائد السيارة عبر الطريق الضيق المعبد الخطر ليقطع مائة وثمانين كيلومترا تقريبا ولينقده كل راكب عشرة ريالات أجرة الركوب!
وإن لم يجد الفتى فسحة من وقت الجامعة لزيارة أهله وطال به الوقت وخشي أن إطالته في مكثه في الرياض قد يزعجهم أو يثير الشكوك في نفوسهم مخافة عليه أن يكون أصابه مكروه؛ فإنه يلجأ إلى أوراقه ويخط لهم على عجل خطابا من صفحتين أو أكثر، يحمله إلى والديه سلامه وأشواقه وتحياته ويسأل عن إخوته وأعمامه وأقربائه وجيرانه بحيث لا يترك أحدا ممن لأسرته صلة به إلا سأل عنه؛ من باب الاحتفاء وتعميق الصلة والتأكيد على إبعاد الظن أو ما قد يستقر في أذهانهم من أوهام بأن الغربة في الرياض والانتقال إلى بيئة جديدة مختلفة بعض اختلاف قد أفسدت ذات الفتى المغترب أو أبعدته عن تقاليد وعادات أهله وما نشئ عليه من قيم وأخلاق كريمة!
يكتب الخطاب وعيناه مبتلتان بالدموع ويلهث راكضا إلى محطة القرية قبل أذان صلاة الظهر، وقد استأذن من مراقب الحضور في الكلية أبي أحمد المعروف بشدته وقوة شخصيته للخروج مبكرا لهذا الطارئ؛ مدللا على طلبه الاستئذان بالخطاب المظروف المدبج باسم المرسل إليه؛ واضعا وجه المظروف أمام عينيه ليقرأ: يصل إلى حضرة جناب الوالد الكريم..... حفظه الله ورعاه؛ فلا يملك أبو أحمد إلا أن يهز رأسه بالموافقة؛ لأن سيرة الفتى ناصعة البياض في الحضور والانضباط، وهو ما يشفع له عند حدوث أي طارئ!
ينسل من بين طلبة الكلية عند الحادية عشرة ضحى ويقطع شارع الوزير ثم يعبر منه إلى القري ومنه إلى ميدان دخنة مارا بالقرب من المكتبة السعودية ثم يصل وهو يلهث خوفا من تحرك سيارة الأجرة بعد اكتمال ركابها؛ إلا أنه يجد السائق الهمام المعروف بدماثة أخلاقه ولطفه وكثرة ممازحاته لركابه يتلفت يمنة ويسرة للحصول على آخر راكب وهو رقم 12، وقد استبشر خيرا حين رأى هذا القادم العجل إليه وكأنه يدعوه إلى التريث في عدم الانطلاق؛ فإذا هو به يمد إليه يده بخطاب مغلف يرجوه أن يسلمه إلى والده، معتذرا من السائق الهمام عن عدم تمكنه من القدرة على السفر؛ بسبب ارتباطه بالتزاماته الدراسية في الجامعة؛ رغم أن اليوم كان يوم أربعاء ويعقبه يوما إجازة؛ إلا أن السائق استحثه في الركوب ليكتمل العدد؛ مقنعا إياه بأن الشوفة خير وأبرك من الخطوط!
أخذ السائق الخطاب ووضعه تحت غطاء شماسة السيارة مؤكدا أنه سيصل إلى والده بعد مغرب اليوم إن شاء الله.
ويمر أسبوع، ثم يعقبه أسبوع آخر، ولا حس ولا خبر عن أهله؛ هو في حيرة من أمره؛ فالامتحانات على الأبواب وقد طالت غيبته عنهم، مر شهر تقريبا منذ أن ودعهم بعد آخر زيارة إليهم؛ ثم كتب لهم خطابه ولم يصله منهم رد إلى الآن، وهو يعلم أن أخاه هو من يكتب رسائل والده القليلة إليه، الوالد يملي والابن يكتب، وكم تمنى لو أن والده يكتب الرسالة بنفسه ليحتفظ بكلمات بخطه الشخصي ويقبله بين وقت وآخر حين يشتد به الشوق إليه وتستبد به العاطفة..