سعادة رئيس تحرير صحيفة الجزيرة وفقه الله
السلام عليكم ورحمته وبركاته
قرأت مقالة الأستاذ سلمان بن محمد العمري بعنوان (جديد الرقية) في زاويته الأسبوعية في جريدة الجزيرة، الصادرة يوم الجمعة 23-3-1435هـ، العدد (15093)، التي حملت في طياتها فوائد كثيرة واقتراحات طيبة لعلاج هذه الظاهرة المتفاقمة في مجتمعنا، إلا أنني أختلف مع أخي العزيز في العنوان (جديد الرقية)؛ إذ (لا جديد في الرقية)؛ فمنذ عشرات السنوات والرقاة كما هم في زيادة، ولم يظهر لهم نظام يحسن ويضبط مهنتهم، وما زال المجتمع يركض خلف سراب بعض الرقاة وتداويهم، وما زالت بلادي من شرقها إلى غربها تحتاج لرقابة صارمة ونظام يخدم ويكفل للجميع حقوقهم؛ لأن الأمر يتعلق بأرواح وأبدان ونفوس الناس، والدخلاء والجهلاء والمتخرصون في الرقية كثيرون ومنتشرون في كل واد، والراقي من هؤلاء يتكلم بكلام مبهم، ويتمتم بتمتمة لا تعرف معانيها، ويخطئ ويلحن ويكسر في تلاوته ومخارج حروف آيات الكتاب العزيز، والبعض منهم تسبب في قطيعة الأرحام وتمزيق المجتمع وتوزيع التهم باتهام الناس بالعين والحسد والسحر، والجزم بأن العائن من ذوي القربى والعياذ بالله. ولك أن تتحدث عن الاستنزاف المالي لتلك المنتجات التجارية التي فاقت الوصف لكل الأمراض، خلطات مركزة، وماء، وزيت... إلخ.
لا أنكر - كما قلت لكم سلفاً - الرقية، وتأثيرها، والعين والحسد، ولا أنكر أن القرآن الكريم شفاء، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (82) سورة الإسراء، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} (44) سورة فُصّلت. والنبي صلى الله عليه وسلم دعا للتداوي فقال: «تداووا عباد الله ولا تداووا بحرام». رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ولابن القيم - رحمه الله - كلام نفيس في زاد المعاد في هذه المسألة، فقال «فالقرآن الكريم هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية إذا أحسن العليل التداوي بالقرآن. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على جبل لصدعه أو على الأرض لقطعها».
لكن الحقيقة التي أريد أن أقررها في تعقيبي لمقالة أخي أبي ريان، ويريد كل عاقل الوصول إليها، أن الوضع للرقاة ما زال فوضوياً بما تحتويه الكلمة من معنى؛ يحتاج للترتيب والتنظيم والتنسيق والمتابعة، في وقت ازداد فيه عدد أولئك الأدعياء المتخرصين المتاجرين، الذين استنزفوا أموال وجيوب وعقول وقلوب العوام والمرضى. نعلم جميعاً أن الناس متلهفة للعافية والشفاء من الأمراض والأسقام والهموم والغموم، لكن ليست بهذه الصور الخاطئة. شكا عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً في جسده فأرشده عليه الصلاة والسلام قائلاً: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثاً. وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» رواه مسلم. تأمل بماذا أرشده عليه الصلاة والسلام. لم يقرأ عليه، ولم يدله على شخص يقرأ عليه، بل أمره بنفسه؛ لأن الشخص لن يجد أحرص من نفسه على نفسه؛ لذا ينبغي أن نثقف المجتمع بهذا، وأن ننشر بين جيلنا وأبنائنا وبيوتنا وذوينا وطلابنا أهمية التحصين بأذكار الصباح والمساء، والمحافظة عليها للسلامة من الشرور والأمراض - حرسنا الله وإياكم من كل مكروه - ثم لنعلق الجيل كله بالله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (107) سورة يونس.
ينبغي أن يتلاحم مجتمعنا كله بأطيافه، بمتعلميه ومثقفيه وعلمائه ومعلميه ومصلحيه، لهذه التجاوزات التي فاقت الوصف والعقل، وألا تتهاوى عقولنا لها، وأن نأخذ بيد مجتمعنا للخير والفلاح. ولا أنسى أن أذكر الخطوة الفريدة من نوعها التي خطتها وزارة الثقافة والإعلام، ممثلة في إدارة تنظيم الإعلام المرئي والمسموع، من منع القنوات والإذاعات من تقديم برامج مخصصة لتعبير الرؤى والأحلام، مستندة إلى فتوى هيئة كبار العلماء التي صدرت في عام 1433هـ؛ إذ تجاوز بعض مقدميها الخطوط المسموح بها شرعاً وعقلاً. قلت هذا والجميع يعلم أنني معبر للرؤى والمنامات مع (ضعفي وقلة حيلتي)، ومع كثرة ما كتبت ووجهت وحكيت وناديت!
وبهذه المناسبة وقع بين يدي استطلاع نفيس أعجبني؛ إذ شمل الاستطلاع رأي (665 شخصاً) لهذا القرار الفريد من نوعه، وكانت نتائجه كالآتي:
المؤيدون لقرار المنع (466 شخصاً) بنسبة 70 %.
المعارضون لقرار المنع (99 شخصاً) بنسبة 14.8 %.
(100 شخص) وافق على استمرار البرامج وفق ضوابط بنسبة 15.3 %.
أردت من هذا كله أن ألفت القارئ الكريم إلى أن القرار المدروس الناجح ينطبق جيداً على الواقع المأمول والمنشود، وبه يتحسن المجتمع وينهض.
أخيراً، كم تمنيت منذ القدم أن يُتَّخذ كذلك في الرقاة قرارٌ صارمٌ منظم حامٍ للجميع من التجاوزات الشرعية، من قِبل المسؤولين في وزارة الداخلية وإمارات المناطق، وهيئة كبار العلماء، ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ببيان تفصيلي، يطالب بتنظيم هذه الفوضى وتهذيبها وتوجيهها. ثم إن الأئمة والخطباء والمعلمين والدعاة دورهم مهم في هذا؛ فلا يُغفلون ولا يهمشون.
كان بودي أن تكون وزارة الشؤون الإسلامية سباقة شجاعة في إخراج بيان شافٍ وافٍ لمطالبة الجهات المعنية بمنع هذه التجاوزات للرقاة والمعبرين قبل وزارة الثقافة والإعلام أو أي أحد؛ إذ هي المعنية الأولى بهذا كله.
قلت - وما زلت أقول - إن الرقية والتعبير طريقان مختصران للشهرة والجاه. أقسم لكم بالله أنني أعرف أكثر من واحد، لا شهادة له، ولا يحسن تلاوة القرآن الكريم، وقد يكون حديث استقامة، وقد فتح استراحة أو مكاناً لرقية الناس دون تصريح وإذن مسبق منظم، يقبض من مرضاه مئات الألوف، ويركب أغلى المراكب والسيارات، وكأن المجتمع ساذج، لا يعي ولا يفطن لما يحاك حوله. كل هؤلاء يحتاجون لتمحيص وإعادة تهيئة من جديد من قِبل أهل الاختصاص، حتى يعطَوا تزكية بهذا العمل النفيس، الذي يتعلق بأرواح وأبدان الخلق. وكما قلت لكم آنفاً، لن ينجح هذا كله إلا إذا تلاحم المجتمع بأطيافه ومؤسساته في وقف هذا النزيف. شفانا الله وإياكم ووقانا من كل الأمراض والأسقام، وشرح صدورنا ونفوسنا للخير والحق والتقوى. والله أعلم.