مدارس بلا فصول دراسية وبلا كراسي وأدراج تقليدية، بل مساحات مفتوحة، مصممة بألوان، ومخططه بإتقان، تضم حالات تعلم مختلفة ممتدة من البيئة الخارجية بمعطياتها ومتغيراتها. هذا هو المبدأ الذي تبنّته المنظمة التعليمية السويدية (Vittra) والتي قامت بتأسيس سلسة من المدارس اشتهرت على مستوى عالمي، محدثة ثورة تعليمية جديدة، حيث بدأت الكثير من المدارس حول العالم بالسير حذوها.
كتب ماثيو هورن الباحث الكبير التابع لمركز الأبحاث الشهير»demos»في الصحيفة التربوية البريطانية FORUM في مقاله الذي جاء بعنوان (هدم جدران المدرسة) «نظام المدرسة الذي تم تصميمه في القرن التاسع عشر وتطور خلال القرن العشرين لم يعد قادراً على تلبية مطالب المجتمع الحديث، ولم يعد يلائم العالم المحيط به. ونتيجة لذلك أصبح الطلاب يحملون مشاعر سلبية تجاه المدرسة فهم يجدون مستويات أعلى من الدوافع والمحفزات خارج المدرسة.. فاليوم لا يمكن للمدارس تلبية توقعات العالم الحديث إلا إذا تم هدم جدرانها والاستفادة بشكل أفضل من فرص التعلم التي تحيط بها والاندماج مع الواقع».
إن المغزى الحقيقي من التعلم ليس لخلق المعرفة عند الشباب ولكن لخلق شباب قادرين على تطبيق تلك المعرفة خارج حدود قاعات الامتحان، وتمكينهم من التفاعل الإيجابي مع المجتمع و البيئة، بالإضافة إلى تمكينهم من الإنتاج والأخذ بمجتمعاتهم إلى مصاف دول التقدم والازدهار.. يحدث ذلك فقط عندما يندمج نظام التعليم مع واقع البيئة الخارجية. فاليوم مثلاً هو واقع ثورة المعلومات والاتصالات والتقنية والتي عجز نظام التعليم عن التفاعل معها بالشكل المطلوب. ويعود سبب هذا العجز لوجود خلل في البيئة التعليمية المادية، فهي بيئة منغلقة بأدواتها ومناهجها وبرامجها التي لا تتناغم مع مجريات هذا العصر. فالبتالي تكونت لدينا بيئة منفّرة لأطفال هذا اليوم.
فالطفل كما هو معروف يولد بحس الاستكشاف والتعلم، ولا يخفى عن الوالدين كم هي عدد المرات التي يستخدم فيها طفلهم أداة الاستفهام (لماذا ؟ وكيف؟)، حيث ينجذب منذ نعومة أظفاره نحو المؤثرات الموجودة في عالمه الصغير ويبدأ بتفحصها وتحليلها بمداركه المحدودة, وكلما كبر واتسعت مداركه أخذ يبحث عن تحديات أكبر. فعندما يصطحب الطفل هذا الفطرة للمدرسة فهو يتطلع لمستويات أعلى من المؤثرات والاستكشافات والتعاملات. إلا أنه ينصدم بافتقار البيئة التعليمية لتلك المؤثرات وتحولها إلى قلاع تحصره في أدنى مستويات التفكير من حفظ وتذكر لمعلومات ونظريات وسلوكيات يعجز حتى عن ربطها بالواقع فينتج عن ذلك فشله في التفاعل بسلوكيات إيجابية مع المجتمع ومع التقنية ومع الانفتاح والعولمة، بالإضافة إلى عجزه عن الوصول لأرقى مستويات التفكير والإبداع من تحليل للمشكلات التي تواجهه على أرض الواقع وحلها، ويفقد القدرة على إعطاء الأشياء من حوله قيمتها الحقيقية ليتعرف على نواحي القوة والضعف فيها فيتداركها ويتغلب عليها.
ومن جهة أخرى مهما حاول المعلم أن يرتقي بعطائه ويواكب متغيرات العصر سيظل محصوراً في حدود معطيات تلك البيئة التعليمية الجدباء وسيظل ملزماً بتقديم ما يُملى عليه من برامج ومعلومات مبهمة.. هذه الفجوة العميقة بين المدرسة وبين العالم الخارجي هيضت مشاعر الرفض النفسي للأطفال والشباب نحو المدارس، فأصبحت أسوار المدار س وجدرانها ترسل لهم إيحاءات بالعزلة والكبت والانغلاق في حين ينشدون الانطلاق الفكري والاندماج الحضاري خارج أسوارها.
المنظومة التعليمية لا يجب أن يتم فصلها بأسوار عن منظومة الحياة بل يجب أن تكون هي حجر الأساس لبناء منظومة مجتمع صحّي صالح منتج يستطيع مواكبة متغيرات العصر بإيجابية وذلك بجلب العالم الخارجي داخل قاعات الدراسة, وجعل المدارس ذات صلة وثيقة بتجارب الأطفال في العالم الحقيقي.. فالإنترنت، ومؤتمرات الفيديو وتقنيات التعلم عن بعد تتيح الوصول إلى مجموعة متنوعة من المعارف الخارجية داخل المدرسة.. كما تتلاشى العزلة التعليمية أمام تطبيق مشروع التعليم المفتوح وهي الفرص التي توفرها المدرسة للطلاب لممارسة نشاطات جديدة ومختلفة خارج صفوفها الدراسية وخارج أسوارها لاكتشاف ميول الطلاب الحقيقة وتطويرها ورفع مستوى طموحهم وزرع الثقة في نفوسهم. كما تجذب المدرسة شغف المتعلمين عندما تحاكي ثورة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي فتندمج معها لتقنن وتطور استخدام الشباب لها فبدلاً من أن يكتب الطالب في كتابه جملة مفيدة عن الوطن فليكتب تغريدة جميلة بوسم الوطن. وبدلاً من أن يرسم في كراسته شجرة، عليه أن يلتقط بكمرته صورة معبرة ويشارك بها أصحابه في إحدى حساباته في تلك المواقع. وبدلاً من أن يتم تلقين الطفل فضل الإحسان وعمل الخير ثم يرددها بلاوعي فعلى المدرسة أن تشركه في أعمال تطوعية يخدم بها الفئات المحتاجة في المجتمع ليشهد نتاج جهده فيثمر حب عمل الخير في قلبه.. وبدلاً من أن يخزّن شكل الهرم الغذائي في ذاكرته السطحية فلتقدم له المدرسة أصنافاً مختلفة من الأطعمة المفيدة واللذيذة لتتكون لدية صورة واقعية للعادات الصحية الجيدة.
الترحيب بالجديد والتنوع والحيوية والانفتاح تمثل تحدياً صعباً لمؤسسات التعليم، وفتح أبواب وجدران المدارس للعالم الخارجي هو السبيل الوحيد الذي يضمن بقاء منظومة التعليم فعّاله مع دفة التغيرات السريعة والهائلة.