برغم المخصصات الضخمة التي تنفقها الحكومة على الشؤون البلدية؛ نجد أن غالبية المواطنين يتذمرون من قصور الخدمات؛ وتدني مستوى المتاح منها؛ وضعف إمكانيات الأمانات والبلديات التشغيلية؛وعدم قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين؛ وتحقيق رضاهم. أضف إلى ذلك ظهور الأحياء العشوائية في بعض المدن الرئيسة؛ وغياب سطوة الأنظمة ذات العلاقة بتصنيف الأحياء؛ ونوعية المباني وتعدد الأدوار وتحديد الاستخدامات وهو ما تسبب في اكتظاظ الأحياء بأعداد مهولة من السكان؛ والمركبات؛ تفوق بكثير قدرتها الاستيعابية.
أجزم بأن غياب التخطيط؛ وضعف تطبيق الأنظمة يقودان إلى حدوث الفوضى العارمة التي تعم غالبية أحياء المدن السعودية. ومن سوء الطالع؛ أن تستمر الأمانات والبلديات في مسارها الخاطئ دون تعديل؛ أو قياس لمستوى الأداء؛ ما تسبب في تراكم الأخطاء وتضرر الأحياء الجديدة التي يفترض أن تكون خالية من أخطاء الماضي؛ ومتوافقة مع متطلبات الحاضر؛ ومتغيرات المستقبل. فتخطيط الضواحي والأحياء المحدثة؛ لم يتغير عن تخطيط السبعينات الميلادية من القرن الماضي؛ في الوقت الذي ما زالت فيه الخدمات الرئيسة مشتتة بين وزارات مختلفة؛ مع غياب تام للتطوير الشامل؛ وفي الغالب تأتي الخدمات بعد إشغال الأحياء بالمباني والسكان ما يؤكد ضعف التخطيط الإستراتيجي للأحياء. تقصير الأمانات والبلديات في تخطيط الأحياء تسبب في نقل العدوى للمطورين الذين يخططون الأراضي الشاسعة ويطرحونها للبيع دون استكمال الخدمات الأساسية؛ ثم تتحول مسؤولية الخدمات على وزارة الشؤون البلدية والقروية التي تجد نفسها مضطرة بتوفيرها للمواطنين. قرار منع طرح المساهمات العقارية للبيع دون استكمال خدماتها لم يتم تنفيذه؛ فتقاطع المصالح؛ وضعف الرقابة؛ والتجاوزات سمحوا ببقاء الوضع على ما كان عليه.
كنت حريصا على حضور ملتقى الجبيل الدولي الثاني لتخطيط المدن في الجبيل الصناعية؛ والذي أقيم تحت شعار (التحديات المستقبلية لتخطيط المدن)؛ بعد أن علمت بوجود صفوة الخبراء والمتخصصين والمهتمين في تخطيط المدن عالميا؛ ومنهم الدكتور «سبيروبولاليز» من جامعة هارفارد.
أعترف أن ما قدمه الدكتور «سبيروبولاليز» برغم أهميته القصوى في التخطيط؛ لم يكن جديدا بالنسبة لي؛ على الرغم من عدم تخصصي في تخطيط المدن أو الهندسة؛ إلا أن معايشتي لتطور مدينة الجبيل الصناعية؛ ومتابعتي لأداء الهيئة الملكية للجبيل وينبع؛ أكسباني الخبرة الواقعية؛ والثقافة الفكرية في تخطيط المدن. لم أتفاجأ وأنا أراقب مسؤولي الهيئة الملكية بالجبيل وهم يستمعون بتلقائية تنقصها الإثارة لورقة العمل المتخصصة في تخطيط المدن؛ فما قُدم في تلك الورقة كان مطبقا لديهم على أرض الواقع منذ أكثر من ثلاثين عاما. تجاوزت مسؤولي الهيئة؛ وبحثت عن أمناء أمانات المناطق الذين يفترض أن يكونوا أول الحاضرين؛ فلم أجدهم؛ وهم أكثر المحتاجين لسماع ما قدمه الدكتور «سبيروبولاليز» لتصحيح أخطاء التخطيط في المدن السعودية. اكتفى بعض الأمناء بإرسال ممثلين عنهم؛ وتجاهل آخرون الحضور. عقد ملتقى تخطيط المدن الدولي؛ حدث مهم يفترض أن يتسابق الوزراء على حضوره؛ لا الأمناء؛ فنحن نبحث عن تغيير رؤية متخذي القرار؛ لا منفذيه؛ وهنا تكمن الأهمية. كنت أتمنى رؤية ممثلين عن وزارة الإسكان؛ التي شرعت مؤخرا في عمليات تطويرية ضخمة يفترض أن تكون قائمة على أسس علمية تتفادى فيها أخطاء وزارة الشؤون البلدية والقروية في التخطيط.
أحسنت إدارة الهيئة الملكية في الجبيل أن استثمرت وجود المتحدث الرئيس؛ الدكتور «سبيروبولاليز» وبعض المختصين الآخرين، لتقديم محاضرات متخصصة لطلاب الجامعات؛ فنحن في حاجة إلى استثمار تلك العقول لنقل المعرفة ونشرها بين طلاب الجامعات؛ولعلنا نجد فيه بعض العزاء لغياب أمناء المناطق؛ ورؤساء البلديات والمعنيين بتخطيط المدن في المملكة.
أوراق العمل المقدمة في ملتقى «الجبيل الدولي الثاني لتخطيط المدن» يمكن أن تسهم في إحداث نقلة نوعية في المدن والأحياء السعودية التي تتوسع بشكل كبير؛ غير مدروس ويفتقر للرؤية الإستراتيجية الشاملة. أقترح على الهيئة الملكية بالجبيل أن تنسخ تسجيلات الملتقى؛ وأن تبعث بها إلى وزارات الاقتصاد والتخطيط؛ الإسكان؛ المالية؛ الشؤون البلدية والقروية؛ وإلى جميع أمانات مناطق المملكة؛ لتعميم الفائدة؛ ولتحفيز متخذي القرار على تبني الرؤية الحديثة في تخطيط المدن؛ بدلا من الركون إلى خطط الماضي البالية. في الوقت الذي يمكن أن تتحول فيه تجربة الهيئة الملكية في بناء مدينة الجبيل الصناعية إلى أنموذج واقعي يمكن استنساخه في جميع مدن المملكة. الدكتور مصلح العتيبي؛ الرئيس التنفيذي للهيئة الملكية بالجبيل صرح في أكثر من مناسبة؛ بأن يدهم ممدودة لكل من يريد أن يطلع على تجربة الجبيل الصناعية؛ إلا أن المتجاوبين مع دعواته الوطنية الصادقة لم تجد بعد الآذان الصاغية حتى من أقرب الأمانات والبلديات لمدينة الجبيل الصناعية