يخوض البعض - هدانا الله وإياهم لطريق الحق - في المسائل الشرعية بغير علم، ولا تخلو أقواله أو كتاباته من المغالطات، وتتبع الأقوال الشاذة، وسوء الفهم للنصوص الشرعية، وعدم التأدب في الخطاب مع العلماء ومثل هذا الخوض الذي يتطرق فيه للمسائل الشرعية وتصدر ممن ليسوا من أهل العلم يثير البلبلة والفوضى والفتنة بين الناس، ويجعل من الناس - ولاسيما العوام والجهلة وضعاف الإيمان - من ينخدع ويغتر بمثل هذه الكتابات أو الأحاديث، وينصرف عن سؤال أهل العلم، ويتعلق بالشبهات والأقوال والآراء الشاذة التي لا دليل عليها، وفي هذا مفسدة عظيمة لا تخفى. وكما هو معلوم فإن كل صاحب هوى قد يجد من شاذ الأقوال والآراء ما يوافق هواه؛ فالواجب منع غير المختصين من الخوض في المسائل الشرعية بدون علم، حماية لعقائد الناس، وحسماً لمادة التشكيك وإثارة الشبهات والفتن بين الناس. وبعض من يخوض في المسائل يزعم أنه إنما أراد المناقشة والاستيضاح، والجواب أنه ليس طريق ذلك إثارة الشبهة أمام الناس، بل الطريق إلى ذلك هو الاتصال بالعلماء مكاتبة أو مشافهة للسؤال والاستيضاح امتثالاً لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وأما من أراد الرد على العلماء فقد ذكر أهل العلم أن الذي يرد على العلماء على حالين:
1 - من عُرف بالعلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم، وأراد برده على العلماء النصيحة لله ولرسوله، وبيان الخطأ، وتأدب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب، فلا حرج عليه، وهو مثاب على قصده، ويجب أن يُعامل بالإكرام والاحترام.
2 - من لم يُعرف بالعلم، وظهر منه التنقص والذم للعلماء وإظهار معايبهم وقصورهم في العلم، وتزهيد الناس في علمهم، فهذا قد ارتكب أمراً محرماً، سواء كان هذا الرد في حضور من رد عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، ويجب أن يعاقَب ويعزَّر؛ حتى يرتدع هو وأشباهه عن هذه المحرمات.
أما الاجتهاد في الشريعة فليس لكل أحد، بل هو لأهل العلم الراسخين فيه كما قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}؛ فلا بد للمجتهد من العلم بدلالات النصوص، ووجوه الاستدلال، ومنهج الاستدلال، وأسباب النزول، ومقاصد الشريعة، والتمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وناسخه ومنسوخه، ومحفوظه وشاذه ، كذلك فإن بعضهم يجعل مجرد الخلاف في مسألة دليلاً على جواز الأخذ بأي رأي، وهذا مسلك خاطئ، يقع فيه كثير من الناس؛ فليس كل خلاف له حظ من النظر، فالمعول عليه هو الدليل من الكتاب والسنَّة، والمستدل ليس كل أحد بل هو العالِم الرباني أو طالب العلم العالم بالأحكام وطرق استنباطها من الأدلة، أما المقلد فمذهبه مذهب العالِم الذي يستفتيه - كما تقدم - وإذا كانت المسألة من الأمور العامة التي تتعلق بالأمة جمعاء كأمور الحرب والسلم والجهاد والمعاهدات ونحو ذلك فقد جعل ولي الأمر للناس هيئة مختصة في الإفتاء، فالفتوى منها ترفع الخلاف لمصلحة توحيد الأمة وعدم تفرقها، ولا يسوغ بعد ذلك الخروج عن رأيها بحجة أن المسألة خلافية؛ لأن ذلك من شأنه أن يُدخل الأمة في الفوضى والاختلاف. كذلك فإن البعض قد يستدل بالعقل في أمور قد حسمها الشرع، والعقل وسيلة لفهم النصوص الشرعية وليس دليلاً مستقلاً، فالاستدلال بالنصوص الشرعية لا بالعقل والرأي المجرد، ولا يجوز تقديم العقل على النص الشرعي. كذلك فإن البعض يتخذ الجدل والمناظرة وسيلة لترويج ما عندهم من أفكار وشُبه، وأهل الحق لا يلجؤون للخصومات والمراء والجدل، بل يبينون الحق بدليله، وإذا وصل الأمر إلى حد المراء والتخاصم كفوا ألسنتهم وأقلامهم.
وأخيراً، يجب أن يُعرف لأهل العلم فضلهم، وأن إجلالهم هو من إجلال الله تعالى، والذب عنهم هو ذب عن شريعته - عزَّ وجلّ - لأنهم ورثة الأنبياء، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، وبهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ والضلال، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدي بها الناس، إذا ظهرت أبصروا، وإذا انطمست تحيروا، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.