الفضفضة والتنفيس بالحديث علاج عند من يقدر أن للإنسان طاقة استيعابية ستوشك على النفاذ إن تجاوزت حد الاحتمال عنده بالبقاء متوازناً وبوعيه دون الانفجار. هي وسيلة إنسانية تنافي وتغالط القول الشهير بأن السكوت من ذهب، وهي فن لا يتقنه الثرثار ولا النمام ولا من يستمتع «بالحش» بالناس. هي المقدرة أن تعبر عما يؤرقك ويضايقك دون أن تخشى من تبعات ذلك، ودون أن يعرف الآخرون به؛ لعلمك أن افتضاح أمرك مصيبة في مجتمع يعشق القيل والقال، ويتنادى بالشرف، ومستعد أن يرتكب جرائم متسلسلة إن افتضح له واكتشف أن ابنته تحب ببراءة أو ترفض الارتباط قبل الحصول على غايتها، أياً كانت تعليمية أو اقتصادية أو عملية.
«اعترافات» هو فحوى عدة حسابات نشطت على تويتر، ولاقت تجمعاً شبابياً حولها، من جيل يخاف أن ينطق بكلمةٍ عما يضايقه. وجد فيها مكاناً يفضفض فيه دون أن يشعر بخجل أو خوف من افتضاح أمره. تغلب عليه اعترافات الأفراد عن الأسرة والجنس والخيانة والحب والاضطهاد الأنثوي، والتذمر من واقع المرأة، ومن ثقافة المجتمع الذكوري والعديد من المشاكل الزوجية.
بصراحة...، أصابتني صدمة وذهول انقلب إلى فضول، لأمضي ساعات وأنا فقط أقرأ معاناة وهموم وفضفضات شباب وبنات كسروا حاجز صمتهم، وأسروا ما في نفوسهم دون أدنى رهبة من أن تنالهم يد رقيبٍ ديني حرم وضيق، أو عُرفي وقبلي ومجتمعي سبب نفوراً أدى لانفلات ديني وأخلاقي وتمرد!.
بعض من تحدث في هذه الحسابات عبر عن كرهه لوالديه، إما بسبب إهمالهما، أو بسبب اكتشاف خيانة أحد الوالدين للآخر. أخريات تحدثن عن تعرضهن لتحرش أو اغتصاب من محارم وأقارب.. شباب اعترفوا بشذوذهم وكذلك بنات وأزواج وزوجات.
القمع الذي يمارسه بعض أفراد المجتمع على التحدث عن مثل هذه الأمور وطرحها علناً، أوجد حالة من الكتمان تجاهها، أدت إلى استفحالها، وحرمت المعانين والمتأثرين بها من العلاج والإصلاح.. حولتهم لضحايا أنفسهم دون أن تعالج تلك النفس المريضة، وتعمل على تحسين الفاسد منها واستصلاحه ليكون خيراً لها ولمجتمعها.
«عيب وحرام، «وفضحتونا» كلمات حولتهم لعبيدٍ لها، حتى بات المراهق والمراهقة ثائرين عليها بارتكاب الخطأ الذي ملوا من كثر تحذيرهم منه. هي بظني ردات الفعل السلبية الناتجة عن خطاب الترهيب المستمر دون ترغيب.. هي الغلظة في التعامل مع انعدام اللين والرفق والقول الحسن، هي الظن بالسوء وافتراضه قبل حسنه. جميعها مورست وتكررت فأوجدت جيلاً متمرداً ليس فقط على الصواب، بل على كل كلمة لا يسمعها وعلى كل ممنوع.. الوصاية التي فرضها البعض على المجتمع، وجعل من نفسه فيها ولياً لشئون الآخرين، حيث من ينال الرضا صالح، ومن يخالف الرأي طالح؛ هي أحد أهم أسباب النفور والتمرد، وهي الإبرة الصغيرة ولكن الكفيلة بتفجير فقاعة الكبت المستمرة، لينتج عن انفجارها ما يسمى بالتمرد السلبي، والعناد المؤدي إلى ارتكاب الخطأ.
على المجتمع العربي أن يكون أكثر حرصاً وانفتاحاً على جيل شبابه، كما يتوجب على المرشدين التربويين والاجتماعيين في المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية أن يلعبوا دوراً أكثر فعالية، وأن يكونوا مستمعين ومقومين للسلوك بعيداً عن الرتابة والروتين والتخويف, وأن يكتسبوا ثقة النشء عبر مساعدتهم على حل المشكلة من جذورها لا محاولة استدراك الخطأ لتحديد آثار تبعاته!.