القصة بدأت قبل ثلاثة وسبعين عاماً أو تزيد قليلاً وانتهت مساء الثلاثاء الماضي الموافق 28-3-1435هـ وللأسف لم أحضر منها إلا اثني عشر عاماً فكانت أفضل قصة سمعتها أو رأيتها طوال حياتي، لم تكن كأي قصة، إنها قصة إنسانية مليئة بالحب والعطاء، قصة جدي وحبيبي وقدوتي الشيخ القدير والمربي الفاضل عبد العزيز بن بدر العسكر، الرجل التقي النقي العابد المتعبد الذي لم يفتر جسمه العليل من الصلاة والذكر حتى آخر لحظة في حياته? فعلى الرغم من العوائق التي واجهها في صغره والتي كان أقواها وأعظمها كف البصر وهو لم يتجاوز الست سنوات إلا أنه تمكن بتوفيق الله ثم بفضل إصراره وعزيمته من التغلب على كل العوائق.
درس الشيخ عبدالعزيز وتعلم في مراحل سنيه الأولى في مدينة المجمعة، حيث حصل على شهادة المعهد العلمي من هناك والتي تعادل الشهادة الثانوية مع حفظه للقرآن الكريم كاملاً تجويداً وتفسيراً? لم بكنفي بما ناله من تعليم فأتخذ القرار الأصعب في حياته وهو الانتقال إلى مدينة الرياض لإكمال دراسته الجامعية متحملاً الغربة وفراق الأهل والأحبة ليقهر الصعاب ويتحدى العقبات ويحصل على الشهادة الجامعية متفوقاً على أقرانه المبصرين في ذلك الزمان، ولم يتوقف طموحه -رحمه الله- عند هذا الحد، بل سعى لإكمال دراسته العليا للحصول على شهادتي الماجستير و الدكتوراه إلا أن ظروفاً قاهرة لم تهيئ له ذلك، فخرج إلى معترك الحياة مفضلاً سلك التدريس على القضاء ليتخرج على يديه عدد من الطلاب الذين واصلوا دراستهم العلمية في جميع المجالات لم ينسوه ذاكرين له ما قدم لهم من علم ومعرفة شاكرين له ما قام به تجاههم من احتواء وتقديم للمشورة والنصح، مثنين عليه كلّما سنحت لهم الفرصة للتعبير عمَّا يكنونه بداخلهم له من محبة واحترام كنوع من رد الجميل له ممتنين بفضله عليه. كان -رحمه الله- سريع الحفظ والبديهة، فطن ذكي شغوف بالعلم والتعلم، موسوعة علمية وقاموس كبير نرجع إليه ويرجع إليه الكثير من الأقارب والمعارف والأصدقاء عندما يلتبس علينا أمر من أمور الدين، فيجيبنا الإجابة الشافية الوافية المتوافقة مع كتاب الله وسنَّة نبيه دون غلو أو تفريط.
اهتم -غفر الله له- بصلة الرحم، بل بصلة الناس جميعاً، كبيرهم وصغيرهم بعيدهم وقريبهم، عالمهم وجاهلهم، غنيهم وفقيرهم، فكسب حب البعيدين قبل الأصدقاء، كان عطوفاً وحنوناً على الفقراء والمساكين باذلاً للغالي والنفيس في أوجه الخير المتعدّدة، ناصحاً للمتخاصمين ومقرباً لوجهات النظر بين المختلفين، شافعاً لقاصديه من جميع فئات المجتمع.
توفيت أمه صغيراً فحرص على البر بأبيه أشد الحرص وبعدما توفي والده واستمر على نهجه من خلال احتضانه لأخوانه وأخواته وزوجات أبيه، محباً ومتواصلاً مع أصدقاء والديه، كان على اطلاع دائم بما يحدث في المملكة في جميع المجالات (السياسية، والاجتماعية والاقتصادية) إلى جانب شغفه بما يجري من أحداث داخلية وخارجية، اتعب قلبه بمتابعة ما يجري في البلدان الإسلامية والعربية من تنازع وتشاحن وتباغض وحروب دائماً، وكان دائم الحثّ على التمسك بكتاب الله وسنَّة رسوله وطاعة ولاة الأمر وعدم الخروج عليهم.
كان جلَّ اهتمامه بأبنائه وبناته وأحفاده وحفيداته صغيرهم وكبيرهم حاضرهم وغائبهم متابعاً لمريضهم وداعياً له بالشفاء العاجل، مباركاً لمسيرة من يتفوق منهم في معترك الحياة، كان يأنس لحديثي وآنس لحديثه، يهاتفني عند اشتياقه لسماع صوتي، بل يصغي لحديثي بكل شغف وسرور وحنان، لم أسمع منه كلمة توبيخ لي منذ أن وعيت على الدنيا، لا يطمئن ولا يرتاح ولا تغمض له جفن إلا بعد أن يطمئن علينا جميعاً، اللهم ارحم (بابا عزيز) كما كان يرحمني وأكثر.