الفتوى في اللغة وفي مصطلح أهل الأصول هي إبانة الأمر وإيضاحه، أفتى فلان فلانا، يعني أبان وأوضح الطريقةَ أو المسألةَ أو ما أشْكَل عليه، سواء أكان ما أشْكل عليه لغوياً أو كان شرعياً، ويقال فَتْوَى وفُتيَا وفُتْوَى، والفتوى والفُتيا اسمان للمصدر يوضعان موضع الإفتاء، إلاّ أن لفظة الفُتيا أكثر استعمالاً في كلام العرب من لفظة الفتوى، وقد وردت الفُتيا في كتب السُنّة التسعة المشهورة في اثني عشر موضعاً بينما لم ترد الفتوى فيها، وفي الشرع جاء اللفظ لإيضاح وإبانة أحكام الله التي يَسأل عنها العباد فيما وقع من شأنهم، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ}.
والمراد هنا بالشرع هو الشرع المنزَّل، أو ما يؤول إليه، وهو الشريعة التي أنزلها الله - جلَّ وعلا - وبلّغها رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، فالمنهاج هو السنة، وهو الطريق الواسعة المسلوكة المداوم عليها، والشرعة، هي السبيل، والطريق الموصل إليها ابتداءً.
ومن فضل الله تعالى على نبيه الكريم أن جمع له منصب النبوة المقتضية لنقل الأحكام بالوحي، ومنصب الإفتاء بما يظهر له رجحانه، فكان يُفتي عن رب العالمين بوحيه المبين، ثم خلفه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منصب الإفتاء الخلفاء الأربعة - رضوان الله عليهم - ومن بعدهم صحابته الأخيار، والتابعون، وتابعوهم، ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم من أئمة هذا الدّين، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - مع اهتمامهم بالفتوى يتهيبونها، يودُّون لَو كفُّوا مؤونتها، كما جاء في حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى - رضي الله عنه - حيث قال: «أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلّى الله عليه و سلم - ما منهم محدّث إلاّ ودَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلاّ ودّ أخاه كفاه الفتوى». لأنهم يدركون مكانتها العظيمة، وخطورة التخبُّط بها، وإن أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع أخرته بدنيا غيره.
وكفى للفتوى شرفاً وتعظيماً أنها تولاَّها ربّ العالمين، فقال عزَّ من قائل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ}، وجاء في كتاب ابن القيّم - رحمه الله - ما يؤكد عِظَم شأنها وشأن القائمين عليها، فيقول في كتابه أعلام الموقعين ...: «إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى مراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن ربّ الأرض والسموات».
يقول العالم الجليل معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ في محاضرته عن الفتوى في العصر الحاضر أن نَهْجَ سلف الأمّة واحد لا يتغيّر بتغير الزمان ولا المكان. وليس للمفتين إلاّ التورّع والتَثبُت مخافة الانزلاق، وأن جدّه سماحة مفتي عام المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - كان لا يفتي وهو واقف، وإنما جلس وتربّع واستحضر قواه، وطلب من السائل أن يلقي عليه المسألة، وإن كان للفتوى صلة بأمرٍ عظيم ربما أخرها حتى ينظر فيها ويستخير، وإذا أملى مكث في السطر أو السطرين دقائق، مخافة أن يكون في لفظٍ منها زيادة أو نقص، فصاروا مع حرصهم خير مبلّغ لها، وأفتوا الناس بما أتاهم الله من علم غزير.
ولمّا كانت الفتوى بهذه المنزلة الرفيعة، والشرف العظيم، وباباً من أبواب الهداية للسائلين، ومقاماً للتشريف والتكليف للمفتين، فإن الانحراف بها عن مقاصد الشريعة، والقول على الله بغير علمٍ في أسمائه وصفاته، وفي دينه وشرعه، من أعظم المحرمات التي تُوصِلُ صاحبها إلى غَضبِ الله وسخطِه - والعياذ بالله - وتُنذر بكارثة، مآلها إغواء الناس وإضلالهم عن تكليف ربّهم وخالقهم.
والمتتبع لأحوال المسلمين في هذه الأزمان التي تلهج بالمتغيرات، وتعج بالفضائيات، والشبكات والقنوات، يلحظ أن بعض طلاَّب العلم أساء في استنباط الأدلّة الشرعية، وانجرف وراء أهل البدع والأهواء والشهوات، بالبت في النوازل بلا دليل، يلوون أعناق النصوص، تبريراً لواقعهم المنحرف، ولا يتورعون في التجرؤ على خالقهم - جلّ شأنه - بتقديم الحريّة على تطبيق الشريعة الإسلامية، واستصدار الفتاوى الشاذة المنكرة لصالح منهجهم المخالف، فتتولاَّها وسائلهم الإعلامية، بعباءاتها المسَيَّسة، ليعبروا بها القارات من غير ضابط ولا أهلية، فيُغَرِرون بالناس، ويوقعونهم في الهلكة، والتشكيك في الشريعة ومبادئها السمحة؛ فيوصف الإسلام عندئذٍ بالتشدّد والغلوّ، والتطرفِ والإرهابِ، وهو منه براء، وأمر ذلك خطير على الأمّة، فالإيمان الصادقَ يدعو المسلم إلى التزام شرعِ الله، واعتقادِ حلّ ما أحلّ الله، وتحريم ما حرّم الله، يعتقده بقلبه، ويعمل عليه بجوارحه، فحينئذٍ تكون الفتوى مبنيّة على الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمّة، ويظهر كمال الدّين، ومحاسنه، وشموله، وصلاحيته لكل الأزمنة والأمكنة. والله الهادي، وهو على كل شيء قدير.