الميثاق الأدبي بين المتحاورين الذين يريدون الوفاء بمتطلبات الملة، ونصرة الحق المبين، والوقوف مع جند المسلمين، ورفع راية الجهاد «ذروة سنام الدين»، وحماية الأوطان، وتحقيق المصلحة العامة، ويسعون إلى جمع الكلمة، وتوحيد الصف، والتعاون على البر والتقوى، يقوم عندي على ركيزتين هامتين:
* فعل الإقناع : الذي يحترم الرأي الآخر، ويعتقد جازماً أن كلامه صواباً يحتمل الخطأ، وكلام الآخر أياً كان خطأ يحتمل الصواب.. وهو جاء بإرادته إلى الطاولة المستديرة ليبحث مع صاحبه الوصول إلى الحق عن طريق الحوار الفكري البناء، لا يريد أياً منهما العلو في الأرض ولا الاستعراض اللفظي وإثبات الإجادة لفن القول ولا الفساد والإفساد في الأرض لا سمح الله أو الانتصار للنفس أو... من حظوظ الذات التي يترفع عنها ويتنزه من الوقوع فيها العلماء الربانيين والمصلحين المخلصين والمواطنين الصادقين ، حاديه في التجرد ونزع قميص الذاتية والشخصنة حين قبوله للحوار في منطقة الاختلاف قول الإمام الشافعي رحمه الله: «ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله أجرى الحق على لسانه».
الاختلاف في الرأي داخل دائرة الحوار النقدي لا يندفع أبداً بواسطة القمع والقوة سواء القمع المادي ولا حتى القمع والعنف المعنوي الذي يستخدم قوة اللسان لإلحاق الضرر الخٌلقي بالغير كما هو حادث في بعض منعطفات ونواحي ساحتنا الحوارية خاصة في عالمنا الافتراضي وفضاءنا الثقافي.. بل إن ممارسة القمع قد تزيد في حدة هذا الاختلاف حتى لا سبيل إلى الخروج منه نظراً لأن الطريق الموصل إلى هذا الخروج إنما هو طريق الإذعان، وفرق كبير وبون شاسع بين «قوة الكلمة الموصلة للإذعان وكلمة القوة المنتهية بالقمع». إذ الإقناع والقمع أياً كان لون هذا القمع «لفظياً أو رمزياً أو مادياً» ضدان لا يجتمعان البتة.
* فعل الإذعان : الذي يحترم الصواب حتى وإن كان خلاف ما يعتقد أنه حق سلفاً..والتراجع عن الرأي بصدق ليس بالأمر السهل الذي يقدر عليه الكل بل هو فعل صعب يحتاج إلى شجاعة وانتصار على النفس، وعدم اكتراث بما يقول الناس، خاصة لمن لهم أتباع ومريدون ينتظرون منهم القول الفصل والرأي الجزم في مسائل الاختلاف التي هي حديث الساعة وكلام الناس.
إن الحوار الموضوعي الجاد القائم على أسس صحيحة، الراقي في أسلوبه، الملتزم في مصطلحاته، الواضح في مفاهيمه، المحترم لمتابعه من أي شريحة كان وفي أي منطقة صٌنف، الواعي لما يفضي إليه هذا الحوار من قول أو فعل في المستقبل المشهود، هذا النوع من الحوار وبهذه المواصفات أداة للوصول إلى الأفكار الناضجة، وسبب في مراجعة المواقف المتخذة من قبل المتابع لما يدور، ذلك إن مواقف الإنسان في الحياة لا تتخذ موقفاً سكونياً قطعياً غير قابل للتغير والتبديل بل موقفاً حركياً قابلاً للتحويل متى جاءت القناعة وتحقق اليقين.
هذا هو الحوار الاختلافي الذي يكون خادماً للجماعة موحداً للصف وصمام أمان من القواصم التي تعصف بالعواصم وتهلك الحرث والنسل.. يورث مزيداً من التماسك في البنية الجامعة، ويضمن التناصح من أجل وفي سبيل تحقيق المصلحة العامة.. بصدق هذا هو فقط الحوار الاختلافي الذي يكسبنا في الوسط الثقافي مزيداً من الشفافية الواعية.. أما الخلاف الذي أظل ساحتنا المحلية بظله سواء من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو عن طريق منتديات الشبكة العنكبوتية أو ما نراه في قنوات الإعلام الفضائية فسيؤدي إلى الفتنه ويورث الفرقة إن استمر على هذه الوتيرة المتشنجة المتعالية عن الحق {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.....}.
الاختلاف في الرأي كما يقول أحد المفكرين «ليس مباراة فاصلة بين تيارين تندفع بواسطة الحسم لان أحد المتحاورين على الأقل قد يجد في نفسه حرجاً متى حُسم به فلا يُسلم وإنما يندفع على العكس من ذلك، يكابر ويتعالى عن الرضوخ للحق الذي جاء من غيره».
بانتفاء الحرج هذا والإقرار من قبل أحد الطرفين بالصواب الذي ظهر على يد محاوره يتحقق الإذعان وتنجو السفينة ويسلم البناء وتتحقق السلامة والأمان، وإلا تصدع صرح الجماعة وتضررت لبنات الوطن وفسد التصور عند الجيل، وغُرر بالبعض من المتحمسين بلا برهان أو دليل، وضاعت معالم الحقيقة، وظُلمت النفوس البريئة بصورة أو بأخرى.
إن التحري في البحث عن الحق واستجلاب الحقيقية ليس بالأمر الهين السهل على الدوام كما سبق، وربما التبس الحق الذي فيه خيري الدنيا والآخرة وضاعت معالمه في معمعة القيل والقال على خيارنا وأفاضلنا وعلية القوم فينا ولذا كان من دعاء المصطفى عليه الصلاة والسلام «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه»، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على طاعتك»
دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.