قفزت الصين قفزة هائلة في الصناعة، فبعد أن كانت من الدول المتخلفة التي لا يُؤبه بها صارت الآن قوة اقتصادية ضخمة، والفضل يعود لعدة عوامل وسياسات من أهمها التركيز على التصنيع، فمن يتأمل ما حوله من أجهزة وأدوات ومصنوعات يجد أن الغالبية العظمى منها - إن لم يكن كلها- مصنوعة في الصين، وهذا ليس عندنا فقط بل في أنحاء كثيرة من العالم، وظهر كتاب بعنوان «سنة بدون كلمة صُنِع في الصين» قامت فيه الكاتبة الأمريكية سارة بونجيورني وعائلتها بمحاولة العيش سنة كاملة بدون استخدام أي منتجات صينية، وهَدَفَت من الكتاب ومن التجربة أن تُظهر للأمريكان مدى تعلّقهم الشبه تام بالمنتجات الصينية وبالاقتصاد العالمي عموماً، وتبلغ نسبة المنتجات الصينية 18% من الواردات الأمريكية كاملة حسب إحصائيات عام 2013م وهو رقم هائل وأعلى مما تستورده أمريكا من الاتحاد الأوروبي كاملاً!
ماذا كانت نتيجة تجربة الكاتبة؟ هل استطاعت أن تعيش حولاً كاملاً بدون أي شيء أُلصِق به وُريقة تحمل عبارة «صُنِعَ في الصين»؟ كانت مهمة عسيرة. هذا ما قالته الكاتبة، فلم تستطع أن تشتري حذاءً لابنها الصغير لأن كل الأحذية التي وجدتها تُصنَع في الصين، واضطرت لشراء حذاء إيطالي غالي الثمن لابنها بقيمة 68 دولاراً (255 ريالاً)! ولما كان يذهب ابنها ذو الأعوام الأربعة لحفلات أعياد ميلاد أصدقائه لم تجد الأم أي هدية مناسبة، فالصين فعلياً تحتكر سوق الألعاب بكامله، وسئم الأصدقاء ألعاب «ليغو» الدنماركية التي لم تجد الأم غيرها. أما الأجهزة الكهربائية المنزلية فقد كان ميؤوساً منها إذا تعطلت لأن قطع الغيار كلها تأتي من الصين. مضت السنة وكانت شديدة الصعوبة على الكاتبة، وحتى أشياء في منتهى البساطة في العادة مثل شراء شموع أو مصائد فئران أو مصابيح كهربائية صارت مستحيلة أو شبه مستحيلة!.
تلك هي الصين: أضخم مراكز التصنيع اليوم. لكنها دفعت ثمنها ولا زالت تدفع الثمن، فكثرة المصانع التي تبث كميات هائلة من الدخان جعل المدن الصينية من أبشع بُؤر التلوث في العالم كاملاً، وانتشرت الأمراض والمشاكل الصحية المرتبطة بكثرة التلوث وعلى رأسها السرطان، ففي عام 2013م دُهِش الصينيون لما علموا أن طفلة لا تتعدى الثامنة أصيبت بسرطان الرئة، وهو لا يصيب الأطفال في العادة، ولكن زالت الغرابة لما قال الأطباء إن التلوث الشديد هو الذي سبب لها هذا، والتلوث مشكلة فعلاً في الصين، ومن يشاهد صور المدن الصينية اليوم وصورها قبل عشرات السنوات سيلاحظ فرقاً في صور الهواء والجو، وقد بلغ التلوث في الصين حداً مريعاً جعل الكثير منهم لا يخرجون للشارع إلا وهم يلبسون الأقنعة، وقد قال الخبراء في إحدى الصحف الصينية إن من يتنشق الهواء في بكين يشفط من التلوث في اليوم كمية تعادل 21 سيجارة، أي علبة كاملة!.
لقد انتصرت الصين من ناحية التصنيع، لكنها تخسر صحة وحياة مواطنيها.