(أ) منشورٌ بعدَ طَيٍّ
أنفضُ الغبارَ المُكدّسَ فوقَ مخطوط الموسوم: (يوشا)؛ ماسحاً جذوته الخامدة بين أخاديد أديمه الأحمر. هو السعالُ إذاً: أيها المأزوم في الشُّعبِ الهوائيّة وبالقلب ذي الضربات المتسارعة. سعالٌ ينكأُ الذاكرة تحريضاً، يبقيها بالكاد تلمّ شتيتَ أنباءٍ، صوراً متشابهة وغير متشابهة.
غبارٌ يؤكّد عليكَ أنّ الصحراء ليست تلك القاحلة الغامضة، التي صَعُبَ عليكَ رسم خرائطها في حصّة الجغرافيا ذات صباحاتٍ في ربيعِ البلاد، يذكّرك أنّها جزء من جهاز تنفّسك. أيها المهجّن بالعديد من السلالات:
«لا تنسَ ربيع البلاد»: قال الخريفُ.
«ما الذي أصابك بالرمل؟»: سألَ الجبلُ.
«لا شيء مكْتمِلٌ»: قال القمرُ في منتصف الشهر.
قدرٌ مألوفٌ أن تحيا الذاكرة منقوصة.
قدر أن يعتاش الكاتب على تلك الخطوط، التي لا تفضي إلى نهايات وليس له من برّ ولا ينبغي. قدر أن يبدع النقص، أو أنه ذاك الذي تسكتُ عنه الذاكرة رحمةً بالكاتب مرّة، ومرّات «قسوة» تحرّك الحبر كي يستوي كلماً.
هو اضطراب قلبك إذاً، ثمّ إذْ يعود لكَ النفَسُ شبهَ طبيعيّ، تحتارُ بين (مروّةٍ وكسلٍ).
مروّةٌ مع رغبةٍ للكتابة ليست جامحة لكنها لحوحة بما يكفي: أنْ تكشفَ المكنونَ وإنْ صغُرتْ مكارمه. كسلٌ آمنٌ لا يستهويه الكشفُ، كانعٌ يقوى على حِمْلِ المكنون وإنْ كبُرتْ عظائِمُهُ. حيرةٌ مستمرّة بين مروّةٍ للكشف والهتكِ، وبين كسلٍ وإرادة في الطي.
ما المأذون به أنْ يُنـزّلَ من عالي الرفّ الحميم من الرُّقَعِ الداكناتِ على الرتقِ الأسود؟ ما المأذون به أنْ يُجْعَلَ صيروة أخرى؟ أنْ يؤولَ من حدثٍ حَيٍّ خمدتْ أنفاسه إلى حِبْرٍ له سِمَةُ الخُلودِ؟ وأن يُصارَ بعضهُ حَبراً عَلَماً لا يرتادُ التقاةُ والأدعياءُ من الناسِ معبدَهُ؛ حَبراً شاكّاً مُرتاباً ظانّاً مأخوذاً بفتنة الكلام.
أيّها الحِبرُ الحَبْرُ كُنْ رفيقاً بي كأوّل قارئ لِي.
كُنْ عاصياً لي وعصيّاً عليَّ. لا تكُنْ هيّناً أبداً. لسنا على عجلٍ، وليس لدينا من الكلام ما سوف يغيّر الأشياء، أو يَقْلِب الموازين المنقلبة، أو يعدّل من مزاجِ الطبيعة. لا تكن خاملاً طيّعاً وإنْ كنتَ ملك يدي أيّها الحِبرُ.
كُنْ نبّأ مِنّي لبناتي: (ورد، رامة، كرمة) نبِّئْهُنَّ بتاريخين قد أذِنْتُ بهما:
تاريخاً أكاد أخفيه، وآخر ياسراً آسراً.
تاريخاً مرتاباً من الحِبر، وآخر يرتاد الحِبر.
كُنْ نبأ منّي حتّى أنزّلَ غيب الذاكرةِ عليكَ قدْرَ ما أوتيتُ من قوّةٍ. كُنْ داهشاً أيّها الحِبْرُ الحَبْرُ ومدهوشاً حتى لا أملّ السرد، وحتّى يرين الواقع سيّداً على الخيال، وليس كما ترميه أحبارك وحروفك من خداع عبر القراءة، كُنْ ضاحكاً على وجوههنّ، حتّى يبقى وجهي أكثر رحابة وخفّة لهنّ، كُنْ ذاكرتي التي بين يديهنّ: أتحيا ذاكرة دون كلمٍ مكتوب؟!
***
يسألني طيّ السجلّ: «أما حانَ للورق الطاوي الراوي أن يلفُظَ زفرَاتِه؟ إني آنستُ الكلامَ الحُرَّ، كما ألفتُ الكتمان. أزفَ نطق الأشياء.لم تعد هدنة بين رحى النفس. آثرتُ أن أجمع شتاتي. ادخلي أيّتها النفس حرّة في كلّ احتمالٍ، اخرجي للعالم بين سالمة ومعطوبة، سيّان الهوس الآدمي، هوس الأضداد وطاغوتها؛ تبّاً لكلّ حقيقة تريد أن تُلغي وجودك أيّها الروح، أنتَ سيّدُ الحقيقة، لا حقيقة غيرك الآن في هذا الغمر المأزوم بالمنتحرين يأساً وتصفية من أسنان الحقائق المستبدّة؛
اخرجي نعمةً ونُعمَى، أيتها الكلمة الملكة: عليكِ السلامُ، لا عاصم اليومَ لي من خروجك؛ فلستُ أُقبلُ فِي التاريخ الحيّ، نبّأني حدسي، ليس يُقْبَلُ مِنّي إلا حاملاً بيديّ كتابي المنشور جهاراً. فيكون كلّي للنشرِ، بعدما كان كلّي للطيّ.
***
حُمِّلتُ كتابي بكلتا يدي. أُذِنَ لي بالمشي بعد وقوف لم يدم طويلا، أو أنّي فيما هو خارج اسم الزمن، مَشِيتُ خطوتين فإذا بي لا أقوى على الخطو ثالثة أخرى، حتّى تبيّنتُ جداراً أماميَ، ليسَ من زُجاج لكنّه سدّاً منيعاً وكاشفاً، تلفّتُ يُمنى ويُسرى، تائهاً استَهْدِي دليلاً أو درباً، فوجدت باباً بين الفضّةٍ والخَشَب، نُقِشَت عليهِ حروفٌ تُوحِي أو أُوْحِي لِي أَنّها لغة في اسمي السريّ؛ ضَمَّيْتُ الكتابَ إِلَى زَرَدِي حينَ أطلتُ الوقوفَ بالبابِ؛ كان في البدء يئنُّ أزيزاً أليماً حتّى استوى الأزِيزُ ثاوياً في الخفوتِ، ليتصاعد على مهلٍ خالقا مقاماً نهاونديّا، يُشبه نهاوند أغنية دنيوية لأم كلثوم:
«ما دام تحبّ بتنكر ليه، ده اللي يحبّ يبان في عينيه»
دُخْتُ، كادَ الكتابُ أنْ يسقطَ من يديَّ، باغَتَنِي ضوءٌ شرقيٌّ لفَّ جسدي لفحةً واحدة، فنظرتُ فإذَا بِي أُحسنُ البَصَرَ شَديداً، أَرَى كُلّ نقيضٍ ناصعاً لا تضاداً، لا اعتلالاً. وإذا بكلتا يَديّ يَمَنٌ ميمونٌ مرّةً، وأخرى شآمٌ زيتونيّ فَآثرتُ أَنْ أَسْأَلَ: «أين»؟
أوّل كلمٍ يَعْقبُني، خُيّ َلَ لي أنّه يُكَلِّمُنِي. «لستَ على درجة الحُلْمِ، لستَ على درجة الحقّ، أَنْتَ دون المحلّ، تَخْرجُ مِنْ ظمأ الأسماء»
سألتُ الإذْنَ بالكلامِ، فاَنْشرحَ القلبُ: غيرَ أنِّي عدتُ، غير قادرٍ على حَمْلِ ما أُلقِي في سمعي. ما كان حُلْماً يُفترى، ما كان صحواً يُرى، وما كانَ نُزُلاً بين منزلتَيْنِ. كانَ تجاوزاً وراء الأسماء، وجداً كاملاً، كادَ به من حضرة الوجد أَنْ يسكُنَ في النارِ، كادَ أنْ يمشي على الماء، لكنَّهُ آثرَ أَنْ يستأذنَ صاحب الإذن أنْ يَعْفُو عنه إذ يخشى حمل الولاية، ثُمَّ آثرَ بعدَ حضورٍ خاطفٍ أَنْ يُلحقَ بالدُّنيا ثَانيةً.
(ب) حرز أيّوب
هذا صراطُكَ حصيرةُ صبرٍ تحت قيامات الشمس، لعلّك إذا بلغَ الصبرُ أشدّه قرأتَ على النفسِ من حرز أيّوبَ ما يمدّك بالماءِ حتّى يرتوي فيك كلّ جدبٍ صحراويّ، إذْ يُحاكمُكَ كاهنُ الظهيرة: «كيف انتصرت على اضطراب قلبكَ حينَ شطبَ الحاجبُ اسمَكَ من قائمة المرافعات؟»
مَنْ أنتَ في هذه الظهيرة الغريبة يا غريبُ!! لُمّ الضحكاتِ التي انفرَطَتْ من عقدِ الطيّبات والطيّبين على قارعةٍ مُريبةٍ بثمنٍ بخسٍ؛ تُشبه الأرصفةُ أوطاناً للتأجير لم تأتِ إلى الخارطة بعد.
- مَنْ أنتَ في هذا الوضوح الفاضح حتَّى تُعرفَ؟
يا سيّدي، قدماكَ العمياوتان حاديَ الجسدِ الضئيل الضلِّيلِ، فكيفَ ترى الطّريقَ في جنونِ الظهيراتِ العربيّة إنْ عزّ عليكَ منالُ العَصَاةِ! كيفَ تراكَ الطَّريقُ وما دلَّهَا أحدٌ عليكَ أو على آبَائكَ الضَّالعين في التيه.
يا هذا الهارِب من قدَرٍ إلى قدَرٍ، لستَ حكيماً بما يكفي ليتبعَكَ الحجرُ الشجرُ الوردُ!
دونك والناس، أيُّها القلبُ الكبدُ؛ مَنْ؟ قلتُ مَنْ أنتَ حتّى يتبعَكَ القمرُ.
ضجرٌ في روحكَ، أعرفكَ أيّها الموعود بالعسل المرّ. أعرفكَ؛ تُكِيلُ أمُّكَ اللعناتِ على القنواتِ، وتُقسمُ عليكَ أَنْ لا تتعاطى السياسةَ.
- فلماذا تخافُ الوالدة؟
- من أمّة فاسدةْ !!
صَعَدَتْ إلى غرفتكَ قبل عشرين سنة ونيف، سألتْكَ بحرمات الموتى وزيتون البلاد، أنْ تُتْلِفَ أيّ شيء قد يحتمل الشكّ والريبة؛ وليس لديكَ ما يرتاب منه الرقيب سوى كتبٍ، مثل عودة الشيخ إلى صباه، ولم تكن شيخاً، لكنَّ حروب الخليج يشيخُ على مركعها كلّ فتىً أوّاب.
تسألُكَ عن تسجيلٍ لمؤتمر العرب في بغداد، وثائق موروثة من عهد أبيك، مراسلات بين أبي عمّار وقيادات عربيّةلم تُنشر، فتتلف منها أمامها لعلّ فؤادها يرضى.
- لم تعُدْ بغداد بغداد...
- أيّ وَهْمٍ يحتل الأعراب اليومَ، كأنّ الحريّة تحت كرسي فلان، فإن طاح فاحت حريّة الشعوب..
- إنهم في عمه ظليم: التحرّر ليس حريّة.
هذا أنتَ الآنَ تخرّفُ كلاماً يُشبهُ جرحاً في كفّكَ اليُمْنَى، جرحاً لا تدري لماذا تغْتَرُّ بهِ كأنَّه أسطورة الفرسان،كأنّه جرح الفتوّة.
كفُّكَ التي قالوا تُشبهُ روحَ أبيكَ. كفُّكَ التي فردتْهَا بصَّارة إسبانية لتقرأَهَا، وكنتَ ابن سنوات عشرة أو تزيد قليلا، فزمّتْ، وحَدّقتْ في الخطوط المنقطعة، التي أفسدها الجرحُ المقدّس، ثمّ قالت كلاماً كثيراً لم تفهمه، أيُّها الأندلسي الذي لا يعرف الأندلس، ثُمَّ طبعت على أثر الجرحِ قبلةً،
ها أنتَ تُخرّفُ الكلام، ها خصمُكَ يَمدحُكَ الآن في حرز السلامة، ثم يكبّك في سماوات أخرى، فتمسّك بحرز أيّوب كلّما ضاقت الدنيا عليك.
إنّي لا أسألهم أجراً على ذنبٍ غفرته لهم، ولست انتظر الحبَّ على حبٍّ زرعته في الطبقات الثمانية.
لستَ تعتبُ إنْ حُرِمْتَ من قائمة المرافعات على باب الغيابة الثانية، لأنّ القلبَ لزجٌ لا يعلق به عتبُ. لكنّ الوشاية تخدش في القلب منبتَ الدم.
«وكانَ ثمّة قيحٌ موروثٌ في بلدي، تقيّأهُ التراثُ، أحياءٌ وأجداثُ، لحقتْ بالذيبِ الشاةُ، نفرتْ من دمها الحياةُ، لعلّك نطفةٌ من شاةٍ وأخرى من ذيبْ، زرعٌ كريبْ، وضرعٌ عطيبْ»
أيّها الجدّ الوقورُ، أيّها الدارُ والدُّورُ: خُذْ بضاعتكَ لا أقدر أنْ أكونَ حكيمك، أو راعي خرافكَ الضالَّة..لستُ طيّعاً بما يتطلَّبهُ الضوءُ. أحبُّ الضوءَ شرط أنْ لا يَقْتَلِعَنِي من رَشَدِي، أنِّي قريبٌ منِّي أهتدِي بي.
غِبْ في البريّة، خُذ اسمَكَ أيُّها الرملُ، وارْحَلْ عَنْ كُتُبِي المقدَّسَة. أنَا المقدَّسُ بِي، وبالجرحِ في كفِّي، وبالصَّبْرِ فِي خُفِّي. خُذْ دمكَ أيُّها الدمُ المتكبِّرُ، آهٍ منكَ ألا تَتْعَبْ؟!
الطَّريقُ إليكَ عمياء لا ترَانِي، وكلتا قدماي على عمهٍ ضلّيلٍ لا ترَى الطريقَ وقَدْ عزَّتْنِي الحياةُ العصاةَ، فَمَنْ يعبرُ إليكَ أيَّها الرَّاعِي خرافه: المُكثرين من الطلبات، المَوْهُومينَ بالرعاية، المسحورين بالحروف، الذائبين في الخوف، المشغوفين للشوف، المُتَشَكِّكِيْن، المرتابينْ.
***
(العهد) - وقالَ: إذا بلغت الخمسين - بنعمة الله الذي أودع في هذا الرميم الروحَ - أذنت لكَ القول دون رمزٍ، فحدّثَ، وأتمّ لهم ما قا له أيّوب في مخطوطة: (حتّى يقذفني الحوت إلى البريّة).