(شارون) .. ومقبرة النسيان

بعد أن قال عنه الرئيس الأمريكي الغوغائي الأسبق (جورج بوش الابن).. بأنه (رجل السلام) الإسرائيلي!! الذي لا يجد (شريكاً فلسطينياً للسلام)، ليتفاوض معه حول حل الدولتين (الإسرائيلية والفلسطينية اللتان تعيشان جنباً إلى جنب في سلام).. أصيب (شارون) أو رجل السلام الأمريكي هذا

«الطيب» بـ (جلطة دماغية) خفيفة عام 2005م.. ثم لحقتها أخرى - أشد فتكاً - بعد عام، أفقدته الوعي تماماً، حتى تحول إلى جثة هامدة يقلبها أطباؤه وممرضوه ذات اليمين وذات الشمال، إلى أن توقفت أنفاسه بعد ثمانية أعوام من رقدته في مستشفى (هداسا عين كرم) فـ (شيباً) عن خمسة وثمانين عاماً، ولكن.. وقبيل أن يحدث له ما حدث.. كان قد أنجز آخر وأعظم إنجازاته - أقصد.. أكبر جرائمه أمام سمع العالم وبصره - بـ (حصار) منزل الرئيس الفلسطيني المنتخب ياسر عرفات - حامل جائزة نوبل للسلام مناصفة مع إسحاق رابين عام 1994م - بالدبابات، ومنعه من السفر أو الاتصال به، وتهديم أطراف مقره بـ (الشاولات) و(الكراكات).. حتى تداعت صحته بفضل (التدابير) التي اتخذها (شارون) ولم يكن يعلم أحد ما هي؟! والتي نقل بسببها إلى (فرنسا) للاستشفاء.. ليعود بعد أسابيع قليلة محمولاً على الأعناق!! حيث جرى دفنه في (رام الله).. وسط دهشة الفلسطينيين والعرب والعالم أجمع.. إذ لم يكن متوقعاً كل ذلك الذي حل بـ (عرفات)، فصوت خطابه الأخير وهو يعلن بأن القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية شاء من شاء وأبى من أبى! وصورة ابتسامته الواثقة المطمئنة عند مغادرته لـ(رام الله) وهو يلوح للآلاف من مودعيه بعلامة النصر.. لم تكن لتوحي بنهاية سريعة كالتي حدثت له - رغم ما قيل ساعتها.. من تبريرات أمريكية - عن إصابته بـ (الإيدز) أو مرض مجهول (خفي).. ولم يكن ذلك المرض المجهول أو الخفي سوى تلك (التدابير) التي اتخذها (شارون) ونقل بسببها (عرفات) إلى (فرنسا) للاستشفاء.. والتي عرفت فيما بعد.. بأنها تسميمه بمادة (البولوتونيوم الإشعاعية) القاتلة عن طريق زواره القلائل.. كما كشفت عن ذلك الدوائر الصحية السويسرية والفرنسية.. عندما فُتح ملف (اغتيال عرفات) مؤخراً وبعد ست سنوات من دفنه، وهو ما يمكننا أن نفسر به (قول) شارون في عام 2004م عندما اشتدت الحاجة إسرائيلياً لـ (التخلص) من عرفات - بعد رفضه تطبيق الرؤية الإسرائيلية للمرحلة الثالثة والأخيرة من اتفاق أوسلو - والتي طال الجدل حولها من أيام كلينتون الأكثر اعتدالاً.. إلى أيام بوش الابن الأكثر تطرفاً وانحيازاً - إن كان بـ (نفيه) أو (محاكمته) أو تركه يتعفن في غرف منزله البائسة: (دعني أرتب الأمور حسب طريقتي)!! فكانت طريقته هي (الخلاص منه.. دون مَسِّه)!! وكما ارتأى ذلك (شارون) من قبل.. وهو ما كان!!

* * *

فمنذ أن دخل (شارون) إلى حكومة الليكود الأولى بـ (رئاسة) أستاذه وزعيمه الإرهابي (مناحيم بيجين) عام 1977م.. وزيراً للزراعة، وبعد أن رفض عرفات سلام (كامب ديفيد) الذي عقده السادات مع بيجين برعاية الرئيس الأمريكي كارتر عام 1979م ورفضه العرب جميعاً إلى حد مقاطعتهم للسادات ومصر (معاً).. أصبح (شارون) وكأنه المسؤول الأول عن الخلاص من زعيم المقاومة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية المتحدث الرسمي باسم الفلسطينيين آنذاك: (ياسر عرفات)، حيث جرت سلسلة من المحاولات الإجرامية للتخلص من هذا الزعيم (المناكف) الذي اسمه (عرفات)!! كانت أولاها بعد التوقيع على معاهدة كامب ديفيد (79م).. وما تبعها من دعوة (السادات) للفلسطينيين لمؤتمر (ميناهاوس) ورفض الفلسطينيين لحضوره.. بعد رفضهم لـ (إطار السلام) الذي أقرته المعاهدة.. ورفضهم قبل ذلك الجلوس مع إرهابي دموي مجرم معروف لديهم (بيجين)، لغ في دماء مئات الأبرياء منهم لإرهابهم - فقط -.. والذي غيّر جلده فجأة بعد زيارة السادات للقدس وأصبح (حمامة) سلام تشارك مع السادات في صناعة سلام المنطقة، حيث اعتُمدت فكرة استخدام (جهاز بث لاصق) يوضع على ظهر سيارته (الفولفو) ليجري تفجيرها من بُعد وهو بداخلها، ولم تنجح المحاولة بعد أن عثر عرفات - خريج هندسة القاهرة - على الجهاز.. وتمت إزالته!! ثم جاءت فكرة (الرسائل) و(المغلفات المفخخة) عام 1982 وعرفات وقيادات منظمة التحرير كلها في (بيروت).. عندما قام عميل عراقي لـ (الموساد) بإرسال الرسالة المطلوبة لـ (عرفات) وقد كانت (رسمية تماماً) في شكلها ومظهرها الخارجي؟! وقد وصلت فعلاً إلى طاولة مكتبه.. إلا أن عرفات تركها على الطاولة لانشغاله في حوار طال مع أحد القيادات الفلسطينية.. ثم عاد ليقول فجأة: (خذوا هذه من هنا، هذه قنبلة. يمكنني أن أشم ذلك)..؟! وقد صدق ما توقعه عندما جرى فتحها في نهاية المطاف.. على يد أحد الخبراء الفلسطينيين حيث (وقع انفجار هائل.. كان بالتأكيد سيصفي كل من كان في الغرفة) وليس (عرفات) وحده.. كما ذكر ذلك الكاتب الإسرائيلي (رونين بيرغمان)، ونشرته صحيفة القدس العربي في السابع عشر من شهر يوليه من عام 2012م، لينجو عرفات بما يشبه المعجزة.. وليقول الإسرائيليون وأعوان شارون (كانت له اكثر بكثير من أرواح قط)!! لتتفرغ الموساد بكل ثقلها لملاحقته بعد أن أطلقوا عليه اسماً حركياً سرياً (سمك مالح)..!! ولكن (السمك امالح) عرفات.. نجا وعاش حتى أنجز اتفاق أوسلو (الأعظم) في تاريخ القضية الفلسطينية بجهود (أبو مازن) و(أحمد قريع) الخرافية من الجانب الفلسطيني.. ورؤى وبراعة (جوهان هولست) وزير خارجية النرويج من الجانب النرويجي عام 1993م، الذي أعاد القيادة الفلسطينية من (تونس) إلى أريحا وغزة.. فبقية ما يعرف اليوم بأراضي السلطة الفلسطينية، والذي مازال بعض الطوباويين من دراويش السياسة الفلسطينية ينتقدونه ويعتبرونه اتفاقاً فادحاً أضر بـ (القضية)!! رغم أنه الوحيد الذي سمح في مرحلته الثانية لأبناء القدس الشرقية بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية والتصويت في مراكز الاقتراع المقدسية بمدارسها لـ (عرفات) كأول رئيس للدولة الفلسطينية، لتعود كرة الخلاص من (الرئيس عرفات) هذه المرة في صدر الألفية الثالثة.. إلى ملعب (شارون) وتدابيره الإشعاعية القاتلة على نحو ما أسلفت..!

* * *

أما جرائم (شارون) على مستوى إراقة الدماء الفلسطينية.. فقد بز (التلميذ) فيها (معلمه).. الإرهابي الصهيوني الأكبر زعيم عصابة (الهاجاناه): مناحيم بيجين، وقد بدأها مبكراً وهو في العشرين من عمره بـ (مذبحة اللد) عام 1948م، التي حصدت خلالها أرواح 426 فلسطينياً، فمذبحة (قبية) عام 1953م.. التي راح ضحيتها 170 فلسطينياً، ثم كان له سبق في قتل وتعذيب الأسرى المصريين عام 1967م.. بصورة لم تعرفها أشد الحروب حطة وخساسة، ثم كان له سبق آخر في اغتيال زعيم غزة الإسلامي (المقعد) الشيخ أحمد ياسين بطائرات الـ (إف 16) وهو على (كرسيه) المتحرك، ليقلده معلمه (بيجين) في حكومته الثانية وزارة الدفاع.. فيعود إلى هوايته في إقامة المذابح للفلسطينيين، بعد اجتياحه (لبنان) عام 1982م.. عندما ارتكبت ميليشيات حزب الكتائب المسيحية بدعمه العسكري و(اللوجيستي).. مجزرتها الكبرى في قريتي صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها المئات من الفلسطينيين واللبنانيين معاً.. وكانت مشاهد جثثها المكومة بعضها فوق بعض.. والتي تناقلتها كل تلفزيونات العالم.. تفوق في فظاعتها خيال أعتى مجرمي الحروب، وهي تتخطى صور محرقة (الهولوكوست) التي سمعنا بها ولم نرها، والتي ظل الإعلام الإسرائيلي بصحبة الإعلام الأمريكي يعملان على تهويلها والنفخ في نارها إلى يومنا هذا، لكن المجزرة، التي صور له خياله المريض بأنها سترفعه إلى (رئاسة الوزارة).. طوحت به خارج وزارة الدفاع.. وهبطت به إلى وزارة الدولة فـ (الإسكان).. فمغادرة الحكومة الإسرائيلية لسنوات، ليعود بعدها إلى رئاسة الحكومة من بوابة اقتحام المسجد الأقصى (عام 2000م) ومواجهة الانتفاضة الفلسطينية التي أشعلها اقتحامه، والتي جعلته وجهاً لوجه ثانية مع (عرفات) زعيم المقاومة الفلسطينية بـ (الأمس).. ورئيس الدولة الفلسطينية (اليوم)، الذي أعلن بوش الابن عدم الترحيب به في البيت الأبيض بل وعدم صلاحيته لإدارة مرحلة السلام الثالثة والأخيرة من (أوسلو) الخاصة (بالحدود والقدس واللاجئين وإخلاء مستوطنات الضفة الغربية)!! ليعود (شارون) إلى ملفه القديم في ظل الظروف الأمريكية الرائعة: (دعني ارتب الأمور حسب طريقتي).. إلى أن تم اغتيال الرئيس عرفات بتلك الطريقة الجهنمية الإشعاعية، ليموت بطلاً وزعيماً وطنياً تاريخياً يسبق بإنجازاته الأفذاذ من شهداء القضية الفلسطينية من أمثال (الحسيني) و(الشقيري) و(الكنفاني) والرنتيسي).. بينما يتعر (شارون) بجلطاته المتلاحقة التي أرقدته تلك السنوات الثماني.. إلى أن لفظ أنفاسه أخيراً يوم السبت - الماضي - ليموت ملطخاً بدماء آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين قتلهم وقتل أحلامهم.. وقد كانوا في العقد الماضي على أبواب سلام حقيقي يعيد إليهم بعض حقهم.. بعض أرضهم.. بعض دولتهم!!

* * *

ولذلك وعندما تناقلت الوكالات.. نبأ وفاة (شارون) مطلع الأسبوع الماضي.. لم أكن من بين السعداء بـ (النبأ)، فقد كنت من بين من تمنوا لو امتدت به (رقدته) لثماني أو عشر سنوات أخرى لتعظم (العِبْرة) عند خلفائه من (الصقور) الإسرائيلية ممن يتصدرون مشهد المفاوضات الكسيحة التي تجرى اليوم بين (أبو مازن) و(نتنياهو).. في ظل تخاذل (أوباما) وهيافة (كيري)..!!

وبعد.. فإن الدعوة لـ (الصفح) والغفران.. لمن يهرطقون بها، قد تأتي لمن قتل نفساً عن غير عمد.. ولكنها لا تأتي حتماً لمن قتل (أمة).. عمداً وعن سبق إصرار كما فعل (شارون) طوال حياته.

فإلى الجحيم.. وإلى مقبرة النسيان الجديرة به وبتاريخه.