ويفر الناس إلى مدن الجوار لقضاء بضعة أيام في أجواء عائلية لطيفة ؛ لا تفرقهم موانع ولا حواجز ولا بارتشينات!
إن دخلوا على مطعم أو مقهى دخلوا لا فرادى فرادى ؛ بل جماعات جماعات!
وإن ذهبوا إلى أسواق تسوقوا بدون معاكسات ولا مضايقات!
وإن رغبوا أن يقضوا وقتاً ممتعاً في صالة سينما أو قاعة مسرح، حجزوا لهم بعددهم مقاعد فشاهدوا واستمتعوا وحلّقوا في أجواء الفن والخيال والمرح والعظة ساعات وساعات!
تفر العائلات زرافات زرافات؛ فلا تحبسهم شقق ولا أوتيلات ؛ كما يحدث في مدننا التي ليس للعائلة فيها إلاّ أطراف من شاطئ محجوز أو الخلوات البعيدات!
كم نحن يا قوم نعيش الازدواجية الكاملة بكل ما تعني من كلمات!
فنحن إن فررنا من ديارنا إلى تلك الديارات البعيدات أو المجاورات ؛ بدونا أقواماً آخرين غير ما نعرف عن أنفسنا معرفة الثقاة ؛ وكأننا خلقنا من جديد بطبيعة وتسامح وتلوّن يناسب متعة مسروقة وأوقاتاً مختلسة لا تشبه ما نقتاته من ساعات وأوقات!
إن انطلقنا هناك أو هناك في تلك الديارات القريبات أو البعيدات ؛ ما أجملنا وما أحلانا وما ألطفنا ؛ فلا نرى بأساً ولا غضاضة في جلسات مشتركات! ولا في ارتياد ما يحلو لنا أو لأطفالنا من قاعات وصالات!
ولكننا حين نعود أو يعود الكثيرون منا ؛ تبدو لنا سحنات ومظاهر غير تلك المظاهر والسحنات!
وكل أب يوصي أبناءه وعائلته؛ انتبهوا: نحن هنا في ديارنا غيرنا في تلك الديارات!
نحن هنا لا يمكن أن تتصرفوا براحتكم، ولا أن تعيشوا بطبيعتكم ولا أن تتطلّبوا ما قصدتموه هناك من وسائل الترفيه والمتعة المشتركة بدون تفريق أو قوانين شتات! نحن هنا مصوبة علينا الأعين ومحسوبة علينا كل الخطوات!
نحن هنا مسلط علينا قانون العيب والممنوع والمستكره والمنقود والخروج على التقاليد والعادات!
نحن هنا غير هناك!
فإذا كنتم هناك فكونوا كما أنتم ؛ أما إذا كنتم هنا فليس لكم إن أردتم الاجتماع أو الاستئناس إلاّ بيوتكم أو الخلوات والفلوات!
هنا عليكم يا أبنائي - كما يوصي الأب العاقل الممتلئ بالرغبة في التعايش والسكينة والهدوء والمنشطر من رأسه إلى أخمص قدميه بالازدواجية - لا تظهروا من أنفسكم إلا ما يريده منكم مجتمعكم ؛ فإن كنتم في مجلس من مجالس القوم فأمنوا على كل ما يقال من كلمات، وإن رغبتم في دخول أو خروج أو زيارة أو ارتياد مطعم أو ما شاكله ؛ فعليكم بالحواجز والفواصل والبارتشينات ؛ فإنها خير وسيلة لإشاعة ما يحسن عنكم من رغبة جامحة قوية في الحشمة والستر، والبعد عن التكشف والتبذل والانفلات!
لا تكونوا كما أنتم ولا كما تريدون أو تقتنعون ؛ تنازلوا عن إراداتكم، وادفنوا آراءكم وما يصح وما يجب وما يحسن في رؤوسكم، واقمعوا تطلعاتكم، واربؤوا بأنفسكم أن تكونوا سبة على كل لسان، وحكاية مكرورة في كل شفاة!
كونوا كما يريدون هم لا كما تريدون أنتم!
أوصيكم يا أبنائي ؛ كي تستقيم حياتكم وتسلك أموركم وتخطب أخواتكم ويرحب بكم أزواجاً صالحين : لا تحركوا ساكناً!
ليس لكم هنا إلا راتب ينزل في حساباتكم آخر الشهر ومشوار مضن مكرر مملول وسط الزحام الخانق من بيوتكم إلى أعمالكم، ثم عودة مسائية تشبه مشوار الصباح الباكر، وهكذا!
ليس لكم إلاّ هذه الحياة الرتيبة المملة، وما أنصحكم به لتخفيف وطأة هذا الملل وضنك زحام الطرقات أن تخلصوا في أعمالكم أشد الإخلاص وأن تقضوا فيها أطول الأوقات؛ فالعمل الموفق الناجح علاج ممتاز عن الإحباطات!
أو هو - كما يقول علماء النفس - العلاج بالتسامي!
أوصيكم بأن تتذكروا: أنتم هنا غير؛ وعوا عني هذه الكلمات!