إن لسوريا تلك السطوة التاريخية التي تلقي بظلالها عليك.. لشوارعها رائحة عكس ما اعتدت اشتمامها في مدن أخرى.. لأهلها حزن عريق، وكأنه صبغة تاريخية وعلامة فارقة تميز الدم السوري دون سواه. هنالك مدن تقرؤها، ومدن تقرؤك.. هنالك مدن تصنعها ومدن تصنعك.. سوريا لا تملك معها خياراً آخر، ستقرؤك، وتصنعك، وتقوم بتلوينك وتعطيرك بحميميتها التاريخية. ستجبرك سوريا على أن تتذكرها، وتعود إليها؛ لترشف من أنهارها نهر السن ونهر بردى ونهر الساجور..
ما زالت ذكرى شوارعها راسخة بذاكرتي, وساحاتها العظيمة كساحة الأمويين تتبادر صورتها لدي من حين لآخر.. شوارعها الضيّقة التي رصفت منذ أكثر من 2000 عام، مقابرها وشواهدها، جبالها المنحوتة وكهوفها التي سُكنت منذ آلاف السنيين..
تقول الأسطورة إن ملكاً ملقباً بسيد الشرق الروماني وملك الملوك «أذينة» ملك تدمر، الذي امتدت سلطته على «سوريا» وسائر آسيا الرومانية، كان إذا خرج للحرب أناب زوجته (زنوبيا) أو (الزباء) الملكة الجميلة السمراء التي قادت إمبراطوريتها للازدهار والرخاء. كانت غزيرة المعارف، تتحدث أكثر من لغة. كانت تتحدث خمس لغات، هي (اللاتينية والإغريقية والقبطية والآرامية [اللغة السورية القديمة]، إضافة إلى الهيلينية)، ومولعة بالصيد والقنص. كانت حكيمة ذات ابتسامة جميلة، عاشت عظيمة في عصرها، كما كانت مخطوطات الشاعر اليوناني (هومر) والفيلسوف (أفلاطون) توجد في بلاطها، وكانت قد جمعت تاريخ المشرق، ونسقته لنفسها، وكانت تتبع زوجها في الصيد، ولا ترهب الحيوانات المفترسة أسداً كان أو نمراً. ولما حكمت البلاد اتسم حكمها بالعدل، وعاملت الرعية بالرحمة، وصنعت تاريخاً للشرق. اعتلت زنوبيا الحكم بعد مقتل زوجها، وفتحت مصر، تلك البلدة العظيمة ذات الخيرات. ولم تكتفِ، بل امتدت فتوحاتها، واتسعت من شواطئ البسفور حتى النيل، وأطلقت عليها الإمبراطورية الشرقية.
لا يخطر بذاكرتي عندما أسترجع أسطورة الملكة زنوبيا إلاّ أن تأتي صورة (سوريا) وشوارع وأبناء هذا البلد، الذي يشكل حاضرة امتداد لماضيه، ورفض زنوبيا الاستسلام عندما حاصر الإمبراطور الروماني تدمر، ومقاومتها بشجاعة حتى اقتيدت أسيرة مغادرة مملكتها تدمر سنة 282م إلى روما، وهناك وضعت حدا لحياتها كالملكات اللاتي يرفضن الأسر والذل بتجرعها السم.
كما سوريا رفضت - وما زالت ترفض - الاستسلام لمن يريد تقرير مصيرها. تتمثل لي قوة وأنفة وعظمة زنوبيا كسوريا عظيمة على مرّ الزمان مهما بذلت من شهداء.
وقفت زنوبيا في وجه روما متحدية الإمبراطور أورليانوس، وهزمته في البداية، وقابلت شروطه بالتفاوض بضرب النقود في إنطاكية والإسكندرية، وأزالت صورته منها، ونادت بالاستقلال الكامل عن روما. وما زالت سوريا 3 سنين تفاوض وتقاوم كل مشروع يفقدها هويتها التاريخية. زنوبيا صاحبة القول الشهير «بئسما تاج على رأس خانع ذليل، ونعما قيد في يدي حر أبيّ»، كشعب سوريا الأبي الذي يرفض الخنوع والذل.. كانت رسالة زنوبيا واضحة من بداية حكمها، وهي تحرير البلاد السورية من الاحتلالَيْن الفارسي والروماني، وتوحيدها في دولة واحدة كاملة السيادة، كما كانت في عهود الأكاديين والآشوريين والبابليين والسلوقيين. كان الهدف الكبير والأمل الحبيب، الذي كان أذينة وزنوبيا يريدان تحقيقهما. مبادئ سامية شريفة غالية تعهدا بأن يحققاها، ومن أجل ذلك.. نشبت الحرب أولاً، بين أذينة والفرس.. ثم بين زنوبيا والرومان.
هنالك أوطان تهزمك، وفعلاً سوريا هزمتنا جميعاً!