ما أكثر المواقف التي تستوقفني لتذكرها في رحلاتي بالطائرة، وأقوم باسترجاعها مع زملاء العمر كلما سنحت لنا فرصة نلتقي فيها! فهي في غالبها مواقف طريفة، وبعضها محرجة، لكنها تأخذ صفة الطرافة، وما منّا إلا تعرض لمواقف طريفة في الطائرة، ولأننا كثيراً ما نعيش أجواء السفر والتنقل بين المطارات، فسأحكي لكم ما حدث في رحلة على متن الخطوط السعودية، ناقلنا الوطني العزيز، الذي نقبل به، ونحبه على علاته وقد قيل «أتطلب صاحبا لا عيب فيه.. وأي الناس لا عيب فيه «- فما أن جلست على كرسي بجوار النافذة،حتى شاهدت رجلا أحسبه في بحر السبعين من السنوات، وقد وقف بجوار الممر الذي أجلس فيه،ثم طلب مني أن أتخلى عن كرسيي لمصلحته، واستبدله بمقعده على الممر، لأنه يريد النوم كما يقول،ولأنه كما قالت العرب «الناس إخوان وشتى في الشيم» رحبت فورا به لتلطفه في الطلب، وتقديراً لسنه سارعت لتلبية رغبته،وبمجرد أن جلس قرر أن يحتل كرسيين،عندما لم يكذب خبرا بأنه عثر على مقعده، واستلقى من فوره على جانبه الأيمن وقد التحف «ببشته» مغطيا وجهه، في هذا الأثناء صادف مرور مضيف الطائرة الذي تفاجأ بالمنظر، فسألني إن كان قريبي؟ فنفيت، فأخذ يطلب من الرجل أن يبقى صاحيا، ويعدل من جلوسه، حتى تقلع الطائرة، وعليه أن يربط حزام المقعد، ثم إنه أشغل كرسيين لربما أن للكرسي صاحبا في الطريق، وكان يحاول تحريك الرجل بيده، إلا أن جاري العجوز، اكتفى بكشف وجهه ليسمع المضيف، ولم يعلق ببنت شفة، بل نظر إلى المضيف شذرا، ثم عاد ليدخل رأسه تحت البشت،عندها طلب مني مضيف الطائرة التدخل، وإقناعه بتنفيذ التعليمات، فناديت عليه مرات، لكنه قرّر أن يصّم أذنيه، فاعتذرت للمضيف لأني لا أملك بيدي حل المسألة، بعد قليل حضر مضيف آخر بمعية المضيف الأول، أعتقد أنه رئيس طاقم مضيفي الرحلة، وأخذ ينادي على الرجل ليقنعه بأن يصحو ويربط حزامه، ويجلس معتدلا؛ ريثما تقلع الطائرة، ثم له أن يفعل ما يريد، لأن ذلك يخالف التعليمات،إلا أن جاري العجوز، والذي أشاح البشت عن وجهه فلتَ عيار لسانه «يعني ما تتركون الواحد ينام براحته،ينام لو ساعة تبغوني أشتكيكم، يله عن وجهي» ثم أعاد تغطية وجهه ببشته البني، عندئذ التفتَ إليّ المضيف ليسألني وقد ارتسمت الحيرة على محيا وجهه، هل هو والدك؟ فأجبته، لا والله، لكن الله يعيننا وإياكم، ولربما بلغ يأس المضيف من إقناع جاري ولو جاء الطيار بنفسه، فانسحب، وكامن حظه،أن المقعد الثالث لم يحضر له راكب، لكني لم أسلم من مضايقته، فقد وصلت أقدامه إلى حدود مقعدي وتجاوزته، كان ذلك يهون، وقد يحتمل، لكن الذي لم يكن بوسعي تحمّله، تلك المعزوفة الرديئة، التي لم أسمع في حياتي مثلها «شخير كالزفير» وأنا مسافر إلى «جدة غير» شخير مصحوب برقصة هيب هوب لشفتي الرجل، وصفير مزعج، وكأنه يحمل في فيه «فرقة راب أمريكية من أصول أفريقية» أو يسكن فيه عش عصافير، لكني حاولت التصّبر وسلواي «إذا ما أتاك الدهر يوما بنكبة / فافرغ لها صبرا ووسع لها صدرا» وقلت للنوم الذي كان يداعب أهدابي قبيل الرحلة وكنت أعّد عيني حتى نركب الطائرة «بتعسيلة طويلة» وداعاً أو كما قال المثقب البعدي «ذاد عني النومَ همٌ بعدهم» فلن يكون بمقدوري أخذ «التعسيلة الموعودة « وسط هذا الصخب، والحفلة التي سكنت جواري فجأة بدون تنسيق على متن إحدى رحلات السعودية.