فارق دنيانا الفانية قبل أيام قلائل إلى جوار ربه تعالى بعد عمرٍ حافل بالمآثر والمحامد، والسمعة العطرة الوالدُ الكريم الشيخ سعد بن عبد العزيز الرويشد عن عمر ناهز (104 سنوات) قضاها في حياة زاخرة بالدأب والعطاء والإنجاز.. ليس في تلبية مصالح وأهداف خاصة، وإنما في خدمة دينه ومجتمعه وإعلاء شأن وطنه، والنجاح في بناء سمعة عطرة وقـدوة حسنة.. وكان الوالد بحـق نسيجَ وحدِه في سيرته وهديه وأخلاقه.
وقد ودعه إلى مثواه الأخير جموع غفيرة من معارفه ومحبيه يتقدمهم الأمراء والعلماء وأفراد أسرته والأصدقاء ولفيفٌ من رجال الدولة.. بأعين باكية وقلوب شجيَّة.. وألسُنٍ ضارعة إلى الله تعالى بالدعاء له بالمغفرة والرحمة..
ونسأل الله تعالى أن تكون هذه المشاركة في تشييع جنازته من عاجل بشرى المؤمن، ومن علامات القبول له عند الله تعالى مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «.. من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض» (رواه البخاري ومسلم).. وهذا من الوفاء لذكرى القدوات الصالحة في المجتمع.
ولا غرو أن جوانب التميُّز ومعالم النبوغ والتفوق في شخصية الوالد رحمه الله متعددة وجليَّة، مما جعله يحوز محبة وثناء الناس، ولكن مما يؤسف له أن مجتمعنا وثقافتنا العربية لا يزالان يعانيان من قصور في إبراز وتقديم القدوة الصالحة والشخصيات المتميزة التي تُثْري الحياة، وتنفع المجتمع لا على مستوى الأسرة الصغيرة وإنما على نطاق العائلة ككل وعلى المستوى الوطني، الأمر الذي أدَّى إلى تهميش دور القدوات في حياة المجتمعات بشكل عام.. وهو مؤشر خطير له انعكاساته وتداعياته السلبية على جهود التربية والحياة الاجتماعية والدينية، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون تأثير القدوة العملية والنماذج الحسية في وجدان الناس أبلغ وأعظم أثراً من المبادئ النظرية المجردة .. فكما هو معروف أن لسان الحـال أبلـغ من لسان المقـال.
ومن هنا فإن إيراد أخبار الأخيار والنابهين والتواصي بها، يشحذ الهمم وينير البصائر ويقوي العزائم، ويلهم نحو سلوك سبيل الحق والفضيلة.. قال الله تعالى مؤكدًا على هذا المعنى التربوي للرسول صلى الله عليه وسلم: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176] .. وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: «إن في سماع ورواية أخبار الأخيار مقويًّا للعزائم ومعينًا على اتباع تلك الآثار، وهي جندٌ من جنود الله تقوى بها القلوب ..»
وعليه، أحببت أن أقدم بين يدي القارئ الكريم لمحة سريعة عن أبرز صور ومقوِّمات القدوة الحسنة في حياة الراحل ـ رحمه الله ـ وأهم شمائله ومناقبه الكريمة.. لتكون وفاءً وعرفانا له.. وعزاء لمن عرفه وأحبه.. وعظة وذكرى للقارئ الكريم.. وذلك من خلال الوقفات التالية:
1 - الاهتمام بعقيدة التوحيد والتعظيم لفريضة الصلاة:
كان رحمه الله عظيم التأييد والاعتزاز بعقيدة التوحيد الخالص (لا إله إلا الله محمد رسول الله) التي قامت على أسسها هذه البلاد المباركة.. لاسيما احتفاؤه وإجلاله البالغ لمنهج الدعوة السلفية التي دعا إليها الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ ومن سار على دربه من العلماء والمصلحين على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.. والتذكير منه دائما في مجلسه بضرورة جمع الكلمة وتوحيد الصف ونبذ التنازع والاختلاف، والبعد عن الشطط والزيْغ وكل أنواع الغلو.
كما كان رحمه الله معظما لأمر الصلاة محافظا على أدائها في المسجد، ويتعاهد أبناءه على ذلك، وكل من جاوره أو قرب منه يشهد له بهذه المنقبة؛ لأن الصلاة عمود الدين.. ومرآة عمل المسلم.. وميزان تعظيم الرب.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة).. وحديث: (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلُحت صلُح سائر عمله..).
2 - الجود والعطاء من ماله ونفسه وجاهه:
كان الوالد ـ رحمه الله ـ مضرب المثل في هذا الباب.. فبيتُه مشرعٌ للزوار ومقصدٌ للجميع.. وكانت له يوميا جلستان عامتان في بيته العامر طيلة أيام الأسبوع: جلسة بعد شروق الشمس.. وأخرى بعد العشاء.. يرتاده فيهما أفراد العائلة والأصدقاء بالإضافة إلى محبيه من العلماء والأدباء والمفكرين.. الجميع يأتلف معه لتميز شخصيته ومهارة حديثه.. ويدور في مجلسه أحاديث متنوعة: دينية وتاريخية وأدبية وفكرية ومسامرات شائقة ماتعة، تعبق بأصالة الماضي ونبض الحاضر.. وكان يتحف زواره بسُفرة حافلة بأشهى أنواع الطعام.. ويزين ذلك طريقتُه البارعة في المؤانسة وحسن المجالسة.. ويلذُّه إكرام زواره على المائدة، وله مهارة في ذلك تنمُّ عن ذوق رفيع وكرم فطري انطلاقاً من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه..).. وصدق من قال: (أعظم العطاءِ العطاءُ من الذَّات).. كما شمل عطاء الوالد تعاهد المحتاجين.. وصلة الأرحام.. وبذل المعروف.. وإصلاح ذات البين.. وتقديم الشفاعات حيث كان ـ رحمه الله ـ وجيهًا مقبول الشفاعة لدى المسئولين والوجهاء.. وكان لا يحب الإفصاح عما يقدمه من نفع أو مال وله في ذلك مواقف مشهورة يطول الحديث عنها.. وأذكر أنه ذات مرة جاءه في أحد الأيام رجل قد اقترض منه مالا معتذرا له ومبينا عدم قدرته على الأداء وطالبا إمهاله.. فلما رأى الوالد ما طرأ على الرجل من عجز وضعف رقَّ له ورأف لحاله، ثم سامحه وأسقط عنه الدين، وطيب خاطره بإعطائه عشرة آلاف ريال هبة منه!!.. ومن المواقف المشابهة أنه كان هناك جار مسن للوالد وذو عيال، ويعمل في وظيفة متواضعة، فلما رأى الوالد حاجته وضعفه بادر بمنحه قطعة أرض مجاورة له في منطقة سكنية معمورة ليقيم عليها بيتا يؤويه وعائلته، وذلك في بداية سنوات الطفرة.
3 - حبه الشديد للعلم والأدب:
ساعده في ذلك نشأته في بيئة مواتية وحافظته القوية، ولعل أبرز ما يجسد هذا الاهتمام العلمي جمعُ الوالد وحفظه لديوان الشاعر الكبير محمد بن عبد الله بن عثيمين (1270هـ ـ 1361هـ) ـ رحمهما الله تعالى ـ بإخراج أنيق مع الشرح والتحقيق العلمي، وكان باعثه في جمع هذا الديوان ما يمثله من ثروة للأدب العربي؛ لأن هذا الشاعر النابه يحاكي في جزالة شعره ورصانته الشعراء في الصدر الأول كحسان وأبي تمام والمتنبي.. ولأنه كذلك ثروة لتاريخ هذه البلاد في حقبة مهمة خلال عهد المغفور له الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وما قبله.. كما أن شعره الجزل كان مشيدا بدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب.. ومناصراً للأسرة الحاكمة خلفا عن سلف.. كما كان الوالد دائم الاطلاع والقراءة، حفيًّا بالعلماء والأدباء ومدارسة العلم.
4 - التحلي بشمائل ومناقب فطرية جمة:
من أبرز هذه الشمائل أنه كان كريم السجايا وقور النفس أريحي الخلق ذا هيبة ورزانة وسمت خاص في بساطة ظاهرة.
فإذا رأيتك حار دونك ناظري
وإذا مدحتك حار فيك لساني
ويجمع عارفوه أنه كان وافر المروءة حليم الطبع، فيه تؤدة وأناة، كثير الإغضاء والتغافل مجانبا للجدال والخصام، محبا للعفو والتسامح، واصلا للرحم والقربى، نقي العرض، عف اللسان فلا تسمع منه كلمة نابية أو هجرا في القول، يأنف من الغيبة وكثرة الانتقاد والتشكِّي والحديث فيما لا يعني.. ويصدق عليه تماما في هذا المقام ما قاله الشاعر الكبير الأستاذ إبراهيم فودة مادحا صديق عمره معالي الشيخ الأديب الشهم محمد سرور الصبَّان ـ رحم الله الجميع ـ حينما قال فيه في قصيدة عصماء:
يا مفعم القلبِ الكبير سماحةً
شملت عيوب الناس بالإغضاء
أنا ما عهدتك شاتما أو شامتًا
وأظـن كل الناس من شهداءِ
وإلى جانب ذلك يتجلى فيه أيضاً فضيلة الوفاء وحسن العهد وما أندرها في هذا الزمان! فتراه يذكر ويثني على من له حق سابق عليه، وربما تصدق عنه.
ومن هذا الرصيد الإنساني الزاخر اكتسب الوالد محبة الجميع.. فلا غرابة أن تجد من رآه أو عرفه يميل إليه بالود والمحبة، ومن قرب منه أكثر يغرم بحبه لشخصيته الآسرة وطيب خصاله وشمائله.. وللوالد صداقات وثيقة في جميع مناطق المملكة تقريباً وخارجها، وعنده فراسة وحسن اختيار للخلَّص من أصدقائه، رحم الله الميت منهم، ومتع الأحياء بالصحة والعافية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سُئل: عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: «تقوى الله وحسن الخلق».. قال العلماء: لأن تقوى الله تقربك من الله وحسن الخلق يقربك من الناس.
5 - الهمة العالية والإرادة القوية:
مما عرف به الوالد ـ رحمه الله ـ أنه كان عصاميا في بناء نفسه.. وكان صاحب دأب ومثابرة، يحب إجادة العمل وإتقانه.. دقيقا منظما في وقته، وظل برنامجه اليومي ثابتا لم يتغير طوال حياته مع تغير الناس وظروف الحياة.. حيث يبدأ باكرًا بعد صلاة الفجر مباشرة.. ولا يؤجل عمل اليوم إلى الغد.. ومن دلائل علو الهمة لديه أن مطالب واحتياجات الرزق لم تشغله عن معالي الأمور وغايات الحياة النبيلة، والتفاعل الجاد مع تطلعات مجتمعه، بل ساهم فيها بسخاء مما يعد شاهدا حيًّا على قوة عزيمته، ونجاحه في تحقيق التوازن المطلوب في الحياة.. ولَكَم تبدو الحياة ضئيلة وقصيرة إذا اختار الإنسان العيش فيها لذاته فقط!!
وعلى الرغم من كثرة علاقاته وأنشطته وارتباطاته الاجتماعية والمالية كان يعامل الناس وفقا لما يؤمن به من مبادئ ومُثُل عليا وليس تبعا لما قد يُلجِئه إليه البعض!!.. ناهيك عما كان يتمتع به من الإنصاف وسمو النفس وشرف أخلاقه عند الخلاف والنزاع.
وبعد هذه الوقفات مع خصال ومناقب الوالد الفقيد تغمَّده الله بواسع رحمته.. والتي نرجو الله تعالى أن تكون شفيعة له عند الله.. وأن تكون نبراسا لنا نحتذي به ونترسم خطاه.. والله هو الموفق والهادي إلى كل خير.. وكلنا أمل ورجاء أن مَنْ كانت هذه أخلاقه ومناقبه لخليقٌ بأن تبقى ذكراه خالدة مع الأيام محفورة في القلوب تذكرنا بصاحبها وبسيرته العطرة، وصدق الشاعر:
وإذا الكريمُ مَضى وولَّى عُمْرُهُ
كفَل الثَّناءُ له بِعُمْرٍ ثانِ
وقبل الختام.. فلَكَم سمعت الوالد الكريم يردد أبياتا لأبي العتاهية يذَكِّر بها نفسه ومن حوله بأن الموت حق لا مفر منه ولا مهرب لأحد دونه قائلا:
إنَّ الطَّبيب بطبِّه ودوائه
لا يستطيع دفاع مكروهٍ أتى
ما للطَّبيب يموت بالدَّاء الـذي
قد كان يبرئ منه فيما قد مضى
مات المُداوِي وَالمُداوَى وَالَّذي
صنع الدَواءَ وَباعَهُ وَمَنِ اِشتَرى
وأخيراً نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يتغمد الوالد بواسع رحمته... اللهم يا أعظم من سُئِل ويا أكرم من أعطى كما أعليْتَ مقام فقيدنا في البصائر وفي القلوب، وخصصته بفضائل من عندك، وبحب كل من عرفه أو سمع بمآثره الكريمة، أن تسبغ عليه من مغفرتك ورحماتك، وأن ترفع منزلته في المهديين في دار كرامتك، وأن تخلفه في عقبه في الغابرين.. وأن تحسن عزاءنا جميعا فيه.. وتلهمنا الصبر والاحتساب على فراقه... وتجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى بمنِّك وكرمك.