إن المتمعن في المشهد الشعري للشاعر عبدالله عطية الحارثي، يجده مشهداً شعرياً ناضجا ضاجا بمسافات الوعي ومساحات الإبداع وحقول النعناع، ومتنامياً من حيث الأسلوب والبناء، بلغة ثرية مثرية، مشحونة بطاقة حسية وفنية متشظية بجميع سياقاتها ومستوياتها ودلالاتها وتراكيبها، حيث تحفل نصوصه بتوهج الصورالشعرية الحسية والمعنوية التي يرسمها لنا بريشة فكره وألوان حسه، عبر مظاهر الانحراف والانزياح اللغوي داخل النص، فلنتأمل في هذه الصورة التجريدية الحسية الذوقية التي تتراسل الحواس فيما بينها عبر دلالات وإيماءات أعطت للصورة بعدا وعمقا آخر:
لا تحتسي حلمك جنا.. لا خان بك ملح الكلام
ما يستحي وجه الظما يمضي على وهج الجنون
كما نجد أن الشاعر عبدالله يتكئ على الطبيعة في رسم الصورة الشعرية، التي تستمد معطياتها وخصائصها وفضاءاتها، وإمضاءاتها من الطبيعة، مزجاً بين ما هو حسي، وما هو نفسي عاطفي كما في الصورة الوجدانية الغنائية التالية:
تطيح باحضان المسا شمس ويطيح
ليل السكون اللي ملا الكون خلوه
واذري انتظاري فوق صمت المراجيح
واسرج ظنوني بين حدره.. وعلوه
وتقبل.. تسرح درب الأشواق تسريح
وتهدي لعذال الهوى الف سلوه
ونجد أن» الأنا» في نصوص الشاعر عبدالله تشكل ثيمة مركزية حيث يتكئ عليها لرسم الصور الشعرية ودفع دلالاتها بألوان فنية كما في هذه الصور الشعرية كمعطاء خيالي تجريدي ليعيد جدولة الذات من خلال الشعر:
يشرب الهم دمعي يرتوي بالنضوب
حزن فيني يجف.. وحزن فيني يثور
ايه انا اللي غدا وجه انتظاره شحوب
وايه انا اللي سقى صبره بكاس القبور
كذلك نجده في سفر مستمر مع الذات وبلغة بالغة الوعي والتكثيف:
مسافر وين...؟ مدري وين تاخذني رداة الحال
تعبت أرسم على كفي وطن أجهل عناوينه
تعبت أزف طعنات الظنون لعمري المنهال
واعري في اشتعال الريح غصن أيامي وتينه
ليواصل في آخر النص هذا النصل الذي أدمى «الأنا» وأنهكها بحضور فني، ينأى به عن التقريرية والتقليدية السائدة، فأتت هذه الصورة الحركية المشهدية لتكون مرآة صادقة ناطقة لتلك الأنا المكبلة:
أنا ذاك الغريب اللي خرج من شهوة الترحال
انا الحر السجين اللي يبيع القيد ليدينه
انا اللي كل ما ابني صرح لاحلام العمر ينهال
يموت الحلم في درب اغترابي قبل تكوينه
تحظى تقنية الزمكانية في تجربة الشاعر عبدالله بحضور فني عميق حيث تتجلى تلك الصور من خلال الأمكنة التي يتعامل معها عبر فلسفة ثقافية ووعي تام في التعامل مع المرجعية المكانية الفاعلة لتكشف لنا عن بنيتها الدلالية المنبثقة من ذاته التي يُعبر بها من المفهوم الحسي إلى المجرد ومن الوعي الى اللاوعي عبر التشخيص الذي أعطى للصورة الشعرية بعدا جماليا وفنيا خاصا:
الشارع اللي لبس رخوة نعاسه ونام
في جفن مصباح يسترخي ونوره كسول
طاحت به الخطوة العميا.. وثوب الظلام
يغري حديث النوافذ للمطر والفضول
فاستطاع أن يوظف المكان/الدروب، بصورة شعرية حسية، حيث أصبح مكونا من مكونات النص ودلالاته، ومرآة عاكسة لعالمه الداخلي والخارجي، تجاه الكون والذات والحبيبة:
متخالفات الدروب وطبعنا قاسي
وركاب همي على الخطوة تزاحمني
شربت برد الظلام ولوّع احساسي
حضنت شوك المسافة لين حطمني
أهديت للخطوة المجنونة أنفاسي
صحيت شيخ الجروح وقام يرسمني
كما نجد هنا كيف استطاع توظيف تقنية الزمان، لتخدم النص وجدانيا وحسيا كما في هذه الصورة الزمانية:
منذور ياطير لايام الحزن والحداد
موجوع .. مامر في ليل انتظارك بشير
لاتستبيح الأماني دام صبرك زناد
للهم والدمع والغربة وجمر المصير
واوقف على شرفة ايامك وحيدٍ وناد
ياحلم الايام لا تكبر وعمرك قصير
ومن ثنائية الحضور والغياب والكلام والصمت، يشعل الشاعر عبدالله فتيلة الوجد بهذا النص الذي أتت به الصور المجردة التي تتراوح بين الحسّي والذهني لتزيد من تماسك الصور الفنية وتفعل وظيفتها.
تعبت قلوبنا والشوق رمّد
وصحوة الجدب تلعب بالحنايا
واغبر الوقت باحلامه تعمّد
يدفن احلامنا غبرٍ عرايا
اشعل الصمت بشفانا وجمد
كل حرفٍ تغازله المرايا
غيمة العشق عدت يا محمّد
مالها في ملامحنا زوايا
فلنتمعن بهذه الصور الشعرية، التي تتراوح في مساحات مكتنزة بالضوء، ومسافات مشرقة بالوعي، من خلال التجسيد والتشخيص للمعنويات والمحسوسات:
اوقف على شرفة احزانك وحيدٍ وناد
ياطير الاحلام لا ترقا وريشك قصير
ما يحملك غصن هالغربة ومالك بلاد
حزين مثلي .. وما تقدر بحزنك تطير
وحيد في دربك المنسوج جمر وسهاد
غريب مثل ابتهالات الفرح للفقير
لو تشعل الحلم في ليل ابتهالك مداد
مالاحتمالات نزفك غير صبحٍ ضرير
تمر فوضى الاسامي .. والاسامي رماد
في ذاكرة ليلك المزروع برد وهجير