سعادة رئيس التحرير سلَّمه الله
اطلعت في صحيفة الجزيرة على تغطية محاضرة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل عن تاريخ عودة سدير ويسعدني أن أعلق على بعض الجوانب فيها، أقول: يصر - الأستاذ الدكتور - عبد العزيز الفيصل بحسه الإبداعي، وذائقته الأدبية، أن يذكّرنا - بين الحين والآخر - بعبق الماضي الملهم للمستقبل، وبحنين تراث الأجداد، وقيمة الأرض، والتراب، والمكان، مهما كان الحاضر أجمل، وأكثر تطوراً. فالاحترام للماضي في نظر الفيصل، كأنه حوار معه، وربط له بالحاضر، وتطلع إلى مستقبل زاهر. ولا بأس أن يكون الأمر كذلك، عندما تأتي تلك الدعوة من عالم متخصص في فنه، يمتلك مادة البحث العلمي، وإنماء المعلومات التاريخية، - إضافة - إلى دوره المؤثِّر في التأليف، والكتابة، وفاعليته في عقد الندوات، والمحاضرات، والاهتمام بقراراتها، وتوصياتها؛ ليساهم بشكل بارز في رسم الصورة الحضارية لتلك الآثار.
القصد هنا لا يطول، وإذا كانت عملية ترميم المعالم التاريخية في «عودة سدير»، التي أشار إليها محاضرنا في افتتاحيته لـ«منتدى بيت الضويحي الثقافي» عملية، - ففي تقديري - أنها ليست شاقة، أو متشعبة، وإنما يتطلب العمل فيه - كيفا وكما -. وهي مطلوبة - اليوم - أكثر مما مضى؛ لأنها التاريخ؛ ولأنها الهوية؛ ولأنها المرآة التي نرى أنفسنا فيها، - شريطة - أن تكون تلك العملية في إطار مشترك من أصحاب التخصص في العمارة، والتاريخ، والآثار، والإحصاء، والاقتصاد، والاجتماع؛ للإبقاء على فاعليتها، دون المساس بالقيم التراثية فيها، وذلك عبر دلالتين، الأولى: المحافظة على الآثار، والمعالم، والمواقع التاريخية، والإبقاء على الشواهد التراثية كما وصلتنا، دون تعديل، أو تغيير يمس جوهرها، أو إتلاف يشوهها. والثانية: إحياء ذلك التراث باعتباره خلفية لتكويننا الحضاري، عن طريق الكشف عنه، وصيانته، وترميمه وفق الأساليب العلمية، وجمعه، وإبرازه، والتعريف به، ودراسته.
دعوات الفيصل كانت صريحة؛ لحماية ما خلّفه الأجداد من تراث، وحمايته؛ ليبقى تاريخاً يُتنبه به على الأحقاب. وإنني آمل من هيئة السياحة، والآثار، أن تجري مسحاً أثرياً، وتراثياً لقرية «عودة سدير»، والتعرّف على أهمية مبانيها، وما تضمنته من آثار، وتراث، وممتلكات ثقافية ظاهرة؛ لتقييمها، وحفظها، وعدم تعرضها لخطر الزوال، - ومن ثم - إعداد قوائم بتلك الآثار؛ توطئة لإحساس الإنسان بأهمية التراث الحضاري بشقيه، - سواء - أكانت آثار ثابتة، كبقايا المدن التاريخية، والعمائر الدينية، والمعالم المعمارية، والتحصينات العسكرية، والمنشآت المائية، والزراعية، والقبور، ونحو ذلك، أو كانت آثار منقولة، كالمنحوتات، والمواد المنقوشة، والمخطوطات، والمسكوكات، والأدوات الفخارية، والخزفية، والزجاجية والمنسوجات، والأسلحة، وأدوات الزينة، - ومثلها- الموروثات الحرفية، والصناعية، والمعمارية، والمنتوجات الحرفية الأصلية.
في نظرة موضوعية لمحتوى حديث الدكتور، وانطلاقاً من عملية الإبداع الإنساني دائبة الحركة، فإن أهم ما تضمنته ندوة الفيصل، هو تحديد نوع عملية الحفاظ على المواقع، والمعالم الأثرية، والتاريخية لقرية «عودة سدير»، والتي طالب - من خلالها - الهيئة العامة للسياحة، والآثار في المحافظة عليها، والاعتناء بها؛ حتى لا تكون عرضة للضياع، والهدم، - وبالتالي - الاندثار، والإهمال، الذي قد يتسبب في تلفها، وخرابها، وهي على النحو التالي:
1 - الحوامي، والأسوار التي لا تزال شامخة، فالحامي الشامل للعودة بمزارعها، ونخيلها، لا تزال أجزاء منه سليمة، مثل: الجزء الغربي، حيث عبر القرون، وهو لا يزال شامخاً بارتفاع عشرين ذراعاً، وبسمك أربعة جدران متجاورة، ومكونة جداراً واحداً يعرف في العودة بالحامي. إن هذا الجزء من الحامي جدير بالحماية، فأهيب بالهيئة العامة للسياحة، والآثار، أن تحمي بقايا السور السليمة، لقد افتقدنا آثاراً بسبب التراخي، مثل: بوابة باب البر، ومنارة الجامع التي بناها ابن سلامة، وحسين التمامي، فالأجدر بنا - الآن - أن نبذل ما نستطيع؛ لحماية آثار العودة، والحوامي من أبرز هذه الآثار؛ لأنها شاخصة، ومعرضة للزوال. ويقول في موضع آخر من الندوة، بأن: المحافظة عليه كأنموذج للسور الخارجي واجب وطني، إنني أدعو الهيئة العامة للسياحة، والآثار؛ لحماية هذا الأثر، بوضع سياج عليه، وحمايته من العبث الذي لحق بأسوار العودة.
2 - مدينة غيلان، والمدينة تحوي قصراً كبيراً محاطاً بسور، وله ملحقات حوله، وما زالت جدران القصر شامخة، وبداخل القصر بئر، بقيت فوهتها، وهي محفورة في الجبل المنبسط الذي يقع عليه القصر.. إلى أن قال الدكتور الفيصل: لقد تكلمت مع « أبو درك « - المسؤول عن الآثار في ذلك الحين في وزارة المعارف -، عن تاريخ القصر، فقال: سنحفر البئر، وسنجد ما يحدد تاريخ القصر، وربما توصلنا إلى صاحب القصر؛ لأن البئر يوجد فيها الخاتم، وعملة العصر، والعمامة، وما إلى ذلك، هذا الكلام مضى عليه - ثلاثون عاماً أو أكثر -، ولم تحفر البئر، ولم تلتفت الآثار إلى القصر، - وحسناً - فعلت إدارة الآثار في وزارة المعارف في وضعها سياجاً على مدينة غيلان.
3 - قصر الرميحية، ويرى الدكتور الفيصل، أن يرمم هذا القصر، فهو جزء من تاريخ العودة.
4 - المقبرة القديمة، وهي جزء من تاريخ العودة، لقد أهملت هذه المقبرة، فالسيارات تسير على القبور، والمارة يطئون القبور، فأين حقوق الموتى؟! لقد كنا في أيام طفولتنا، وأول شبابنا، نفرح إذا سقطت عجلة السيارة في قبر؛ لنجتمع، ونتعاون في دفعها، وإخراجها مما وقعت فيه، ثم إن سيل عام - ثماني عشرة وأربعمائة وألف هجرية -، تسبب في هبوط القبور الجنوبية من المقبرة، والقبور التي هبطت في ذلك السيل أكثر من عشرة، وقد شاهدها الكثير. إن تسوير هذه المقبرة واجب ديني، ثم وطني، ثم إنساني، فإذا كان الإنسان حياً له حقوق، فإن الأموات لهم حقوق. إنني أدعو اللجنة الوطنية؛ للسعي في حماية المقبرة، وتسويرها، أما الآلية، فهي كما يلي: يوقع الشهود بأن هذا المكان مقبرة، وبه بشر أموات، فإذا جمعت التوقيعات، ذهب بها واحد من اللجنة الوطنية إلى القاضي؛ ليصدق عليها، فإذا أيَّد القاضي ما شهد به الشهود، ألزمت البلدية بوضع سور على المقبرة.
إذا كانت هذه الآثار تشكل عناصر جذب للسياحة، فهي مبعث فخر لنا، واعتزاز بها، ودليل على عراقتها، واتصالها بشخصية الأمة، كونها إنجازاً اجتماعياً، وثقافياً، ينتسب إلى الماضي في صوره المختلفة. وعليه، فإن الإستراتيجية الوطنية المدعومة بالإنفاق الحكومي السخي، لا بد أن يتوازى مع القدرات الفنية، والثقافية في حدود الإمكانات المتاحة للإنفاق على ترميم تلك الآثار، وصيانتها، وتأهيلها كمادة هامة للصناعة السياحية، وتشجيع أفواج السياح؛ لارتياد تلك المواقع التاريخية. ولا يكون ذلك إلا بالمحافظة على البيئة التاريخية لـ «عودة سدير»، وعلى نسيجها العمراني التي تكوّنت من أحيائها، ومراكزها التاريخية، - ومن ثم - تنميتها، واستثمارها اقتصاديا.
في عالم يعج بالعولمة، يستوجب استيعاب الإرث التراثي، والثقافي؛ ليكون سبيلنا الأمثل نحو المحافظة على الهوية الوطنية. وهذه المحصلة الأثرية لا يمكن احتواؤها، دون فهم منظومة قيمه الكامنة في نسيج التراث التكويني. وعندما تطمس هذه الآثار، وتمحى، فإنه لا يمكن استعادتها وفقاً للمعايير الدولية، التي يتم تصنيف الآثار وفقاً لها، فمسألة المحافظة على التراث، مسألة دولية متعارف عليها.