كلما يبحر المرء بين أفكاره وخياله ومعلوماته وعلومه يجد أنه أجهل إنسان بها وأكثرهم استناداً للعلم، وأكثرهم اعترافاً بالجهل وهكذا.
فكل شيء بسيط وواضح وقابل للإدراك والفهم، وقابل للتحليل وللتفسير عند فئة من الفئات الجاهلة وإنصاف الفئة المثقفة وإنصاف العلماء.
مالذي ندركه ونعلمه ونعرفه عن هذا الكون الفسيح؟!!
لا ندرك ولا نعلم إلا ظاهره، ولا نعرف إلا معرفة سطحية، أما حقيقته أعماقه لا نعرف منها إلا قليلاً، فالمرء يقف حائراً في أمره ولا يعرف تمام المعرفة إلا متى تنتهي هذه المشكلة،حيث إنه يجدّ في طلب العلم والمعرفة في كافَّة القوانين والأسس ولكنَّها أمور تتصل بالظواهر أكثر مما تتصل بالأعماق - أما حقيقة هذا العالم وكافة قوانينه التي يملكها فلا يستطيع العلم أن يتقدم بها تقدماً يُذكر،حيث إن المرء يستطيع ان (يعرف بعض الاشياء) ويضع لها قواعد وأسسا - ولكنه في واقع الامر يعتبر جاهلاً ولا يستطيع تعريف أي شيء منها.
حيث إنهم تحدثوا عن الإنسان بأنه حيوان ناطق وكذلك الحصان حيوان صاهل، وبذلك عرفوا المرء والحصان، وأخذوا مستندين على هذا التعريف، وظل المرء مجهولاً بعد تعريفهم كما كان مجهولاً قبله، وكذلك ظل الحصان مجهولاً بعد هذا التعريف كما كان قبله.
واجتهد علماء كل باب من العلم أن يُعرِّفوا أمورهم يعلمهم بعلمهم، فاختلفوا جميعاً في تعريف أمورهم الخاصَّة والعامَّة التي تخصهم، ولم يلمسوا حقيقتها مطلقاً فالواجب عليهم أن يتراجعوا عن كلمة تعريف إلى كلمة أخرى ليس فيها هذا الغلو والتبجح أو أن يغيروا تعريف «التّعريف» فلا يجعلوا أنَّه مصدر حقيقة الشيء وإنما هو مصدر بيان وأبلغ صفات والعالم مملوء بأسس كثيرة، وقوى عديدة، ولسنا هنا نُعرف حقيقة كل عنصر من هذه الاسس ولا أي قوة من قواها وإنما نُعرف بعض خصائصها ومميزاتها.
فنقول وما حقيقة هذه الذرة؟
وما حقيقة هذه الخلية؟
وما حقيقة هذه النواة؟
أسئلة تدور في خلد كل مِنَّا علماً أن الاجابة عليها ستكون بذكر الصّفات فقط لا بذكر الحقائق لأننا نجهل الكثير والكثير من حقائقها جهلاً تاماً حتى أقرب الأمور التي بين أيدينا وأكثرها مساسا بنا لا نشعر به ولا نعرفها ونعرف تمام المعرفة أنها أقرب إلينا من حياتنا، ولكن ما هي الحياة وأسسها؟
ستكون الاجابة بكلمة لا نعلم أو لا أعرف وهكذا فلن يستطيع المرء معرفتها إلا إذا خلقها كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} علماً أن تقدم العالم كثيراً من جانب اكتشاف كافة الحقائق اكثر تقدم من جانب الخصائص - وهنا يحق لكل منا أن يتساءل: لماذا وجد المرء في هذا العالم الفسيح وأحيط بكافة الالغاز التي لم يستطع حلها جيداً؟!!
فهو يعرف ظاهر المادة فإذا تعمق قليلاً لا يستطيع أن يعرف ماوراء المادة من إلهيات ونحوها.
فإن الرياضي الحاذق لا يستلذ للمسائل السهلة والنظريات البسيطة، إنما يستلذ إلى اصعب التمارين حلاً وأشدها تعقيداً وهو في هذه الحالة ينسى نفسه، وينسى كل شيء حوله.
حيث إن العالم على شكل مجموعات غامضة تتطلب الحل - ومنذ أن خلق المرء في هذه الحياة والعالم يتوافد عليه من كل حدب وصوب شخصيَّات كبيرة مختلفة الالوان والآراء والمذاهب والمقاصد شعراء يتغنون بجمال الطبيعة - وفلاسفة يتعمقون في الخصائص والحقائق التي لا تحتمل الشّك ولكن حقائق الكون أصبحت كلها مجهولة لدى المرء تتطلب منه الحل - ومع هذا الغموض وهذا الاحباط يجب على المرء أن يتساءل: هل هذا العالم مبني على اساس منطقي في تكوينه وفي تصرفاته يسير يميناً ويساراً من غير قانون؟
وهل العالم مسألة هندسيّة معقدة؟
بنيت على نظريات صحيحة يصعب على المرء حلها ولكن ظاهرها يدل على أنها معقولة ممكنة الإجابة، أو هي مسألة هندسية لم تتضح على أساس صحيح ولا على منطق معقول ومرتب وإنما هي مسألة ابتكرت من هنا وهناك فيجب على المرء أن يتوقف عن الإجابة عن هذه الأسئلة المحيرة - لأن مظاهر الحياة كلها مفارقات وأحداث مفاجئة - أما إذا كانت مظاهر الحياة عبارة عن قوانين جيدة تجعل مقدماتها إلى نتائج كان البحث العلمي ممكناً ومعقولاً، وقد اعطتنا الدلائل والحقائق كلها على أن العالم خاضع للمنطق وأن له طريقاً يسير عليه ولا يستطيع أن يسير حسبما اتفق وأنه محكوم بقوانين ثابتة لا تتغير - فإذا كان المرء يرى أن لذته في هذه الأمور الغامضة أن الحل والنجاح أحياناً والفشل والإحباط أحياناً فخير له أن يتمتع، فهذه اللذة القوية الواضحة في هذا الطقس الغامض!!!
والله الموفق والمعين.