التقنية نعمة وربما صارت نقمة، هي مجرد وسيلة في يدي الإنسان، والمفترض أن نستهلكها لا تستهلكنا، ونوظفها لا توظفنا، ويكون توظيفنا لها لما فيه خير أنفسنا وأوطننا وأهلينا وبني جلدتنا، ومن التوظيف الإيجابي لها تلك الحملات التي تصب في النهاية لما فيه الخير الدائم والصالح العام، ولعل من آخرها ما أُطلق منتصف هذا الأسبوع تحت شعار «عمال النظافة والبرد الموجع»، والذي أوضحه أصحابها المطلقون لها بقولهم: (هل بلغ مستوى اهتمامنا بنظافة شوارعنا المهترئة أن نتساهل بأرواح هؤلاء الضعفاء وننزلهم للشوارع قبل طلوع الفجر في ظل التدني الحاد لدرجات الحرارة.
هل من مسئول يستجيب لهذا النداء ويساهم في رحمتهم؟.
آمل نشر هذه الرسالة لإنقاذهم «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»).
إن على أصحاب الشركات سواء المتخصصة في النظافة أو الرصف أو التعمير والمقاولات أو... الذين ينزلون إلى الميدان ويباشرون أعمالهم اليدوية منذ الصباح الباكر في هذا الجو شديد البرودة أن يتقوا الله فيهم ويحسنوا رعايتهم فيلبسونهم ما يحقق لهم الدفء ويصرفون للعمال قبل غيرهم مستحقاتهم المالية كاملة غير منقوصة ويحسنون لهم دون إجحاف في حقهم أو استغلال لضعفهم وحاجتهم، فنحن جميعاً نسمع ونرى صوراً وحكايات عن استغلال هذه الفئة بالذات من قبل المقاولين رجال الأعمال مما ينعكس سلباً على سمعة وطننا بل ربما تعدى ذلك لنظرتهم الخاطئة لديننا الذي ندين الله به ظناً منهم أننا جميعاً في هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية من يتمثل الإسلام سلوكاً معاش ومنهج حياة!!.
كما أن على المجتمع أن يذكر بعضه البعض في واجبه إزاء الفئات المستضعفة والمحتاجة التي تعاني الأمرين في هذه الأيام جراء البرد القارس الذي يحتاج معه الإنسان إلى التدفئة ولبس الملابس الثقيلة حتى لا يكون عرضة للمرض وقد يصل به الحال إلى الموت.
إن الله عز وجل يبتلي بالفقر كما يبلي بالغنى، وربما كان الأغنياء أشد بلاء من الفقراء إذ أن المال الذي بين أيديهم هو في حقيقته مال الله، والله مستخلفهم فيه فناظر ما هم فاعلون، وسيسأل كل منا عن ثروته «من أين اكتسبها، وفيما أنفقها»، ولذلك لابد أن يستشعر أصحاب الثراء هذه الحقيقية التي ذكرها الرب وأكد عليها وبرهن في أكثر من موضع في كتابه وعلى لسان رسوله عليه الصلاة والسلام.
إن عامل النظافة الذي يجعل شوارعنا أجمل له حق الاحترام والتقدير والعون والمساعدة فهو مثلك في الإنسانية والإحساس والمشاعر ولكن ظروفه الحياتية هي التي أجبرته إلى المجيء لهذه البلاد- التي أفاء الله عليها من بركات الأرض- طلباً للرزق، ومن أجل إعفاف نفسه عن ذل السؤال، ولينفق على عيال صغار فلنكن عوناً له في غربته ولا نزيد غربته غربة.
لقد مارست بعض الشركات التي تمت ترسية مناقصات النظافة عليها الظلم البين الذي لا يليق إذ هضمت هذه الفئة حقها وأجحفت في التعامل معها رغبة في تعظيم هامش العائد المادي لها ولو على حساب هؤلاء المسحوقين وللأسف الشديد.
إننا جميعاً في خندق واحد، والخطأ يعم الجميع، ونتائجه لا تقف عند حد مرتكبيه، بل إن الفساد إذا استشرى وعم، ولم ينبري له أحد ليوقفه ويمنعه أهلك الله الكل حتى الصالح من القوم كما في الحديث المعروف.
قد يتساهل البعض مثل هذه المواضيع ذات الصبغة الدونية في نظره!!، وهذا غير صحيح إذ أن كثيراً من هؤلاء الذين يأتون من بلادهم طلباً للقمة العيش هنا يعودون وهم يحملون بين حناياهم صورة عنا إيجابية كانت أو سلبية، وترتسم هذه الصورة في أذهانهم فينقلونها لمن حولهم، وتتعاظم وتكبر وتتسع الدائرة كلما كان هذا القادم كبيراً في قومه، متقدماً في سنه، حساساً في مشاعره، دقيقاً في رصد تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها حين كان يعيش غربته في بلادنا حماها الله.
إنني بحاجة إلى الصدق مع الكل بلا استثناء، كما أننا بحاجة إلى تذكير بعضنا البعض بطبيعة الدنيا وتقلب أحوالها وتصرف لياليها وأيامها، بحاجة إلى أن نتذكر واجب التواضع والرحمة والعدل مع الضعفاء قبل الأقوياء والغرباء قبل الأقرباء، بحاجة ماسة إلى تنظيف قلوبنا قبل مطالبة غيرنا بتنظيف شوارعنا ومياديننا، بحاجة إلى أن نربي أولادنا على قيم التعامل مع هذه الشرائح الأضعف في دنيا البشر مثل ما نربيهم أخلاقيات التعامل مع الأثرياء وأصحاب الجاه، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.