عندما نجهل لغة التخاطب نحس أننا أمام عظماء وكلامٌ نووي طلسمي وببساطة بداية عنوان المقال هو (عشاء في الظلام) (Dine in the dark) باللغة الإنجليزية مكتوباً بالأحرف العربية والتي أكره أن أستعملها عند كتابة مقالاتي باللغة العربية ولكني قصدت استعمال ما يبدو أنه طلاسم لشد انتباه القارئ العزيز لهذا الحدث الذي غفلت عنه أنا شخصياً لأكثر من 31 سنة والتي عشتها معالجاً ومؤنساً ومستفيداً من فئة غالية علينا ألا وهم المكفوفون فاقدو البصر الذين عندهم من البصيرة الشيء الكثير. لقد أحسن صاحب السمو الملكي عبد العزيز بن أحمد بن عبد العزيز رئيس الجمعية السعودية لطب العيون ورئيس اللجنة الوطنية لمكافحة العمى في اختيار شعار هذا الحدث (شف اللي أشوفه) لكي نرى ماذا يرى هؤلاء الأحبة المكفوفون وكيف تكيفوا مع هذا العالم التقني المتغير في كل لحظة، صحيح هم لا يرون شيئاً بمفهومنا نحن ولكنهم يرون كل شيء بمفهومهم. وقد دُعيت لهذا الحدث بصفتي عضوا في اللجنة الوطنية لمكافحة العمى بالمملكة العربية السعودية، وإن كنت في أحيان نادرة أغمض عيني وأنا أتناول الأكل أو أقوم بإجراء مكالمة من جوالي لأتقمص شعور بعض مرضاي، ولكني كنت أفعلها لوقت قصير لا ألبث إلا أن أفتح عيني لترجع لي من غير حول مني ولا قوة نعمة البصر التي حُرمها خلق كثير، ولكن الذي حدث في (عشاء في الظلام) هو تجربة حقيقية لأكثر من ساعتين في تناول وجبة العشاء في ظلام دامس لا يُسمح فيه أنوار جوال ولا ساعة مضيئة وكنت إذا وضعت يدي أمام عيني لم أكد أراها. خطرات وخواطر مرت عليّ وأحداث كثيرة عايشتها في هاتين الساعتين لم أستوعبها على مدى أكثر من ثلاثة عقود في تعاملي مع إخواني فاقدي نعمة البصر بكل أتراحهم عند فقد البصر وبكل أفراحهم عندما يُعيد الله لهم هذه النعمة بعد عملية جراحية أو علاج طبي قدمناها لهم, صحيح (اسأل مجرب ولا تسأل طبيب). حقاً لقد أحسست أني أنا المريض وهم الأطباء لأن الذين قاموا بقيادتنا في هذا الظلام الدامس وتقديم أطباق الطعام لنا هم من إخواننا فاقدي نعمة البصر.
عشنا هذا الوقت وشعرنا بشعورهم وأحسسنا بأحاسيسهم وأصبحنا نتلمس ونشم ونرعى السمع وننشط أية خلايا خاملة في أجسامنا وأية توصيلات عصبية كسلى في أمخاخنا، لكي نعرف ماذا نأكل أو كيف نسكب الماء والعصير ونحاول أن نخدم أنفسنا بدون مساعدة. كنت أتحدث مع عشرة أشخاص هم الذين معنا على طاولتنا المستديرة، والتي عرفنا شكلها بحاسة اللمس, أتحدث معهم وبعضهم لم أرهم عندما كنا في النور، فلك أن تتخيل كيف كانت محاولاتي لرسم صورة لهم في مخيلتي من كلامهم، من نبرات صوتهم، من ثقافتهم، من أجوبتهم، من قصصهم، من عملهم، من بلدانهم (لأن بعضهم من خارج البلاد العربية).
في هذه الأمسية استشعرت نعمة البصر التي قال الله سبحانه وتعالى فيها في الحديث القدسي «إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة, يريد عينيه» وحمدت الله على نعمه جميعاً علينا نحن العباد ودعوت «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا واجعلها اللهم الوارث منا» ولكني في نفس الوقت جلبت انتباه نفسي إلى أننا يمكننا الاستغناء عن حاسة البصر في بعض الأشياء التي نقوم بها تلقائياً من غير تفكير في حياتنا العادية.
في هذه الأمسية مرّت أحداث تزاحمت على مخيلتي وضاق بها تفكيري لعلي أفردها بحديث آخر. أنصح الجميع بخوض غمار مثل هذه التجربة هنا في بقية المدة التي يقام بها هذا الحدث أو في المطاعم التي تقدم هذه الخدمة على مدار العام في إحدى سفراتكم للخارج، ويمكن الوصول لها عن طريق الإنترنت، وأتمنى أن أرى مثل هذه المطاعم في بلادنا قريباً لأن التجربة كانت ناجحة ولقيت إقبالاً كبيراً، ولهذا ألحيت على أبنائي بتجربة مثل هذا العشاء ليقوموا بشكر الله على نعمه التي نتقلب بها صباح مساء «وقليل من عبادي الشكور».
وكذلك أدعو زملائي الأطباء والممارسين الصحيين وأهالي ذوي الإعاقات بصرية كانت أو سمعية أو حركية أن يخوضوا مثل هذه التجارب، لأنها ستفتح آفاقاً جديدة وأساليب مبتكرة لنتعامل مع هؤلاء من منطلقهم هم ومن وحيهم هم ولا نفرض عليهم أشياء فقط لأنها تروق لنا وتناسبنا نحن.
وفي الختام استكشف ما حولك واكتشف ما بداخلك وانطلق إلى النجاح مهما كانت إعاقتك وهناك أمثلة رائعة في الماضي والحاضر، واعلم أننا لا نستعمل إلا 10-20% من خلايا أدمغتنا في أحسن الأحوال والباقي ينتظرنا لنحركها.
وتقبلوا تحياتي.