في يوم الاثنين 27 صفر 1435هـ انتقلَ إلى رحمة الله وجيه الرياض وذاكرة التاريخ الوطني الشيخ سعد بن عبد العزيز بن رويشد بعد أن عاش قرناً من أزهى مراحل التاريخ السعودي عبر عاصمته الرياض في عهود ملوكها عبد العزيز وسعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله.. ومشاركة الرعيل الأول من الأمراء ورجال الدولة.
وقد جرت بيني والشيخ سعد مكاتبات ولقاءات أيام التحضير للذكرى المئوية لتأسيس المملكة عام 1419هـ من جهة دارة الملك عبد العزيز، وقد زوّدنا بمعلومات قيمة عن شخصه الكريم وعن ذكرياته، وسأذكرها هنا بنصها توثيقاً وتأكيداً على ريادته وجهوده: فقال - رحمه الله -:
(أنا سعد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الرويشد، ولدت في شهر ذي القعدة عام 1331هـ بمدينة الرياض ودرست فيها القرآن الكريم في إحدى الكتاتيب القديمة بمدرسة المعلم محمد بن مصيبيح الواقعة بجوار مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ من الجنوب بحي (دخنة).. وهذه المدارس الصغيرة ما كانت تهتم بالخط وفي هذا المسجد بدأت أغيب القرآن عن ظهر قلب مع زملاء لي وأكملت القرآن خلال عامين وقد تعلمت مبادئ الخط في هذا المسجد ودرست التوحيد والنحو والفرائض على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبد اللطيف - رحمهما الله تعالى - وتوقفت عند هذا الحد لأن والدي رحمه الله كف بصره وأحواله المادية أقل من البسيطة ولأنني أكبر العائلة اضطررت أن ألتمس وظيفة كتابية في مالية الرياض عندما تسلمتها وزارة المالية من رئيسها السابق محمد بن صالح بن شلهوب، ووزير المالية الشيخ عبد الله السليمان عيّن فيها الشيخ صالح الجبرين ومكث فيها بعض الوقت ثم خلفه فيها الشيخ عبد الله الخويطر ومكث فيها بعض الوقت ثم خلفه فيها ابن عم وزير المالية عبد الله المحمد الحمدان وبقي فيها مدة طويلة ثم في عام 1354 خلفه فيها الشيخ عبد الله لنجاوي وكنت في عهد هؤلاء الأربعة المسؤول عن المقررات الشهرية بمالية الرياض مما جعل خطي يتحسن بعض الشيء، وحيث إن معالي الشيخ عبد الرحمن الطبيشي هو بوقته رئيس الخاصة الملكية لجلالة الملك عبد العزيز فقد صدر الأمر على الرئيس اللنجاوي بنقل خدماتي أنا وزميلي محمد بن شاهين إلى مكتب الخاصة الملكية وبقينا في الخاصة الملكية إلى أن توفي الملك عبد العزيز - رحمه الله - في أول عام 1373هـ وطلبت أنا وزميلي ابن شاهين أن نحال على التقاعد وانتخبت عضواً في مجلس إدارة كهرباء الرياض وعضواً في مجلس إدارة شركة الغاز والتصنيع الأهلية بالرياض برئاسة معالي الشيخ عبد الله بن عدوان - رحمه الله - وحيث إن عامل الزمن له حدود حين بلغت 87 عاماً بقيت في منزلي أكتب في كل عام مقالاً في اليوم الوطني، وأحياناً أكتب مقالات وأبعث بها لإدارة مؤسسة جريدة الجزيرة بالرياض وهي تتكرم مشكورة بنشرها وقد صار لي شرف جمع أشعار الشاعر الكبير محمد بن عبد الله بن عثيمين لأنه - رحمه الله - لم يجمعها في حياته وكانت تنشر في جريدة أم القرى بعدما تولى الملك عبد العزيز الحجاز عام 1343هـ وقد استنسخت جميع أشعاره بقلمي من مجلدات أم القرى التي وجدتها في مكتبة صديقي الشخ محمد سرور الصبان بمكة المكرمة ولمدة سنة ونصف السنة لأن معظم أشعاره في الملك عبد العزيز كلها تهاني لجلالته في تأسيسه وفتوحاته التي عادت على هذه المملكة بالخير والأمن والاستقرار والأشعار التي نظمها قبل ضم الملك عبد العزيز الحجاز وجدتها عند بعض الأصدقاء ولست بحاجة أن أستعرض بما حواه هذا الديوان أو أحيطه بهالة من التشويق والثناء وأنا الذي جمعته وسهرت عليه، وإنما أترك ذلك لمن اطلع عليه ويعطي فيه كلمته والذي لهذا الشاعر من الشعر في آل ثاني لأنه عاش في شبابه عند الشيخ قاسم بن ثاني مؤسس دولة قطر وشعره في آل خليفة وشعره في المراثي فقد حرصت عليها في مظانها وأهم ما دعاني لهذا الديوان وجمعه لأنه أدب وشعر على أرقى مستويات الشعر العربي الفصيح ولأنه لا يضاهيه شاعر في المملكة السعودية ولأن هذا الشعر صادر من عالم وشاعر من بلادنا ولأن معظم شعره في الملك عبد العزيز آل سعود الذي سهر على هذه المملكة منذ أن تولاها في عام 1319هـ عندما قدم إليها من الكويت إلى أن توفي - رحمه الله - في عام 1373هـ أي خلال أربعة وخمسين عاماً كلها جهاد وكفاح وصولات وجولات حتى حكم معظم الجزيرة العربية من شارف الشام إلى عدن كما قاله الشاعر المذكور محمد بن عثيمين في إحدى تهانيه لجلالته حيث قال: فأمنها بالله من أرض جلق
إلى عدن مستسلماً كل مجرم
فلا متهم يخشى ظلامة منجدٍ
ولا منجدٍ يخشى ظلامة متهم
ومن ذكريات الشيخ سعد عن الملك عبد العزيز يقول:
(وبحكم أنني من كتبة الخاصة الملكية في عهد جلالته التي كان يرأسها الشيخ عبد الرحمن الطبيشي فقد حررت مقالاً مطولاً ضمّنته في كتيب عنوانه من تاريخ الملك عبد العزيز ومواقفه النادرة وقدمته بمناسبة المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام 1406هـ، ولقد تشرفت كثيراً وما زلت أعتز بها ما دمت أنني على قيد الحياة، وذلك أنني كما قلت من كتبة الخاصة الملكية فقد صار لي شرف كبير أن كتبت تحت ركبة الملك عبد العزيز وبإملاء جلالته خمس مرات عدد (3) في مجلسه الكبير بقصر المربع وعدد (2) في خيمة جلالته في أيام الربيع بروضة التنهات).. انتهى.
وقد حضرت إلى منزل الشيخ سعد في حي الشميسي بالرياض مراراً بمعية الأمير طلال بن عبد العزيز - حفظه الله - للعشاء والجلوس مع نخبة من أصدقائه ومعاصريه ومنهم الأستاذ المؤرخ والأديب عبد الرحمن بن سليمان الرويشد والأستاذ القدير صالح بن حيدر وأبناء الشيخ سعد وغيرهم، فرأيت فيه التواضع والكرم والسماحة والولاء الصادق والمحبة للآخرين والإيثار.. والأمير طلال - حفظه الله - كثير الثناء والتقدير والإجلال للشيخ سعد مثلما يفعل مع جميع من كانوا مع والده الملك عبد العزيز وبراً من سموه - رعاه الله -.
وقبل سنوات طويلة كان التلفزيون السعودي يعرض في ذكرى اليوم الوطني كلمة مستفيضة للشيخ سعد عن مسيرة الملك عبد العزيز في بناء المملكة وذكرياته عن تلك الحقبة مقدماً درساً وطنياً عفوياً عبر الشاشة قبل أن يكون هناك أساتذة أكاديميون متخصصون في مجال التاريخ السعودي ممن نرى مشاركاتهم الحالية في القناة السعودية والقنوات الفضائية.. فكان من الرواد القلائل من ذوي الخبرة والدراية والمعاصرة والتفاعل مع مجريات تاريخنا المحلي.
ولما كان الشاعر الكبير الفذ الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين من أعظم شعراء الملك عبد العزيز باللغة الفصحى.. وكاد شعره يتوارى فقد هيأ الله سبحانه وتعالى الشيخ سعد بن رويشد، ومن جاء بعده مثل الأستاذ أحمد أبو الفضل عوض الله والدكتور محمد بن حسين والدكتور عبد العزيز الفريح وغيرهم لإنقاذ تراث الشيخ الشاعر ابن عثيمين - رحمه الله - وإبرازه والاحتفاء به باعتبار شعره امتداداً لمدرسة زهير وحسان وجرير والفرزدق وأبي تمام والبارودي والرصافي.. ولكي نعرف مدى جهود الشيخ سعد في كتاب العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين نذكر هنا ما قاله في مقدمة الكتاب في طبعته الثالثة سنة 1400هـ فيقول:
(كانت طبعة هذا الديوان الأولى في عام 1375هـ بدار المعارف بمصر، وهذه الطبعة تضم القصائد التي نظمها الشاعر في الفترة الواقعة بين عام 1320 -1356هـ.. وقد جمعت أشعار الديوان، ورتبته، وشرحت ألفاظه، وكتبت له مقدمة تناولت فيها حياة الشاعر، ورحلاته، وصلاته بملوك العرب، وعرجت في أثنائها على شعره وشاعريته.
ولقد كانت طبعة الديوان الأولى على نفقة معالي الشيخ عبد الله السليمان الحمدان (وزير المالية في عهد الملك عبد العزيز آل سعود) رحمهما الله، ومن ثم فإن هذه الطبعة قد اتسمت بالأناقة التي قلّما توفرت لغيرها من دواوين الشعر في هذا العصر، لا شك أن ابن عثيمين جدير بها.. وكان توزيع هذه الطبعة جميعها بالمجان عن طريق الإهداء تعميماً للفائدة، وحرصاً من معالي الوزير الشيخ عبد الله السليمان - رحمه الله - على نشر شعر ابن عثيمين في مساحة أوسع خدمة للقارئ والمثقف العربي وإثراء للمكتبة العربية.
ثم كانت الطبعة الثانية لهذا الديوان (تصويراً) في قطر عام 1386هـ في مطابع دار العروبة، وعلى نفقة الشيخ أحمد بن علي بن عبد الله آل ثاني.
ولما كانت الطبعتان السابقتان قد نفدتا، ونزولاً على رغبة الأدباء والقراء والنقاد، فقد رأى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السليمان الحمدان إعادة طباعة هذا الديوان على نفقته هو وإخوانه، وعددها عشرة آلاف نسخة مجلدة تجليداً فاخراً يليق بمكانة هذا الشاعر.. وكانت رغبة أبناء الشيخ عبد الله السليمان أن توزع كل هذه الكمية أيضاً بالإهداء.
وكان معالي الشيخ محمد سرور الصبان معجباً بشعر ابن عثيمين الذي كنت أحفظ الكثير منه عن ظهر قلب، فكنت أتلو عليه في الغالب طرفاً من شعر ابن عثيمين، فيأخذ منه العجب والإكبار بهذا الشاعر كل مأخذ حتى إنه تمنى لو رأه وتحدث معه في حياته.. وحدثني معاليه قائلاً: كنت جالساً مع جلالة الملك فيصل - رحمه الله -، في جلسة خاصة، وكان الحديث مع جلالته حول الأدب والأدباء، فقلت لجلالته: هل اطلعتم على شعر ابن عثيمين؟.. ففاجأني جلالته باستنكاره قائلاً: لقد هضمت الرجل حقه، فهو عالم قبل أن يكون شاعراً، فعند ذلك أيقنت أن جلالته يعرف ابن عثيمين تمام المعرفة.
وهذه القصة إن دلت على شيء فإنما تدل على مكانة ابن عثيمين شاعراً وعالماً، وتدل من جهة أخرى على منزلته عند آل سعود بخاصة ومكانته بين شعراء عصره بصفة عامة).. انتهى.
وبعد فإن المقام يطول في الحديث عن الشيخ سعد - رحمه الله - وريادته الاجتماعية والتاريخية، سائلاً المولى عز وجل أن يبارك في ذريته، وأن يوفق أبناءه الدكتور عبد الله والشيخ محمد والدكتور عبد المحسن والأستاذ سليمان والأستاذ منصور والمهندس أحمد وبناته إلى كل خير وفلاح.