لم يكن يخطر ببال جون فيلبي، المبعوث الإنجليزي الذي قدم إلى نجد لاستجلاء حقيقة النزاع الدائر بين شريف مكة، حليف بريطانيا في معاركها ضد تركيا، والملك عبدالعزيز، أن هذه الرحلة ستكون مفترق طرق لحياته، وأنه عما قليل سيصبح أحد أخلص رجال «ابن سعود»، الذي كان آنذاك عدواً لحليف بلاده، في وقعة أثارت اندهاش الإنجليز، واستياءهم أيضاً من أمر رجلهم الذي وقع أسيراً لشخصية الملك عبدالعزيز، إلى حد اتهامه بالخيانة في بلاده من قبل بعض المغالين من السياسيين والباحثين، الأمر الذي لم يعبأ به جون فيلبي، الذي أصبح هذا كله بالنسبة إليه تاريخاً، بعدما اختار الحياة في كنف الملك عبدالعزيز، وأصبح أحد أقرب رجاله ومستشاريه، بل واعتنق ديانته فأصبح الحاج عبدالله فيلبي، الاسم الذي اختاره له الملك عبدالعزيز. وعلى اختلاف آراء مواطني عبدالله فيلبي من البريطانيين، إلا أنهم جميعاً اتفقوا على أن السر الكبير وراء هذا التحول، أو بالأحرى الانقلاب العظيم، الذي جعل من جون فيلبي رجلاً آخر، هو تعرضه لإشعاع شخصية المؤسس، وإعجابه بهذا الرجل العربي فريد الطراز، الذي لم يكن فيلبي أول من أسرهم بتلك الكاريزما العابرة للحدود التي كان يمتلكها، إلى حد تأثر شخصيات عالمية لم تلتقه يوماً بمواقفه وسيرته. وقد انقسمت مواقف زملاء فيلبي من آرائه تلك، فمنهم من عد مغالاته وخيمة على السياسة البريطانية، إلى حد وصفهم إياه بالخائن لوطنه (بريطانيا)، التهمة التي دفعها فيلبي عن نفسه بالقول: «قد يظن بعضهم أني كنت خائناً لحكومتي، لكن تلك لم تكن القضية قط، لقد كنت معارضا لسياستها، وأوضحت ذلك تماماً، واستقلت لكي أستطيع التعبير عن آرائي بعلنية وحرية». فيما احترم آخرون إيمانه بآرائه وتمسكه بمواقفه، ومن هؤلاء الأخيرين (ارنولد ويلسون) المعتمد البريطاني، الذي عبر عن احترامه لموقفه، على الرغم من خلافه معه في كثير من الموضوعات، لذا لم تكن شهادته في حق فيلبي مجروحة أبداً يوم قال في حقه: « رفعت من شأن سمعتنا القومية التي تتعلق بالأمانة والاستقامة بالتزامك الصريح بمبدئك». بيد أن هذه الشهادة الذهبية لم تكن الوحيدة التي نالها فيلبي عن تاريخ مواقفه المشرفة التي وقفها إلى جانب الحق العربي، فهذا عبدالله بن الحسين ملك الأردن، يقول فيه: « إنه مخلص جداً في خدمة البلد الذي يعيش فيه». أما الشهادة التي كان ينتظرها فيلبي نفسه، فهي شهادة بطل المشهد العربي العام كمكان يراه آنذاك، الملك عبدالعزيز الذي قال في حقه في أحد مجالسه: «لقد عمل فيلبي كثيرا من أجلي ومن أجل قضية نجد، وضحى بالكثير في سبيلنا، واختلف مع سياسة حكومته بسببنا، وتخلى تبعاً لذلك عن مناصبه الرسمية من أجلنا». ومن مواقفه فيلبي التي تكشف عن صدق عاطفة جياشة تجاه الملك عبدالعزيز، يذكر الزركلي أنه ذرف الدموع على باب الملك عبدالعزيز في الطائف يوم علم بأنه أمر بالانسحاب من الأراضي اليمانية، التي كان فيلبي يتمنى أن يضمها عبدالعزيز لحكمه.
أما رؤية فيلبي لبطل قصته الملك عبدالعزيز فأوجزه في قول: « العرب ديمقراطيون، والدليل على ذلك أكبر وأعظم حاكم عربي الآن، فعبدالعزيز آل سعود هو الأول بين أقرانه، وتكمن قوته في أنه ترجم بدقة آمال شعبه». كان حماس فيلبي للمؤسس عظيماً، ولم يكن لديه أدنى شك في أن الغلبة ستكون له، لأنه على حق، وأدرك بحسه السياسي، أنه رجل الجزيرة القوي؛ لذلك تنبأ بأن النصر سيكون حليفه في الحرب مع حاكم مكة الشريف حسين، بينما كانت بريطانيا تراهن على الحسين وأبنائه، على اعتبار أنهم يحظون بإرث تاريخي ويستطيعون جمع العرب من حولهم. لذلك عندما دعي فيلبي لحضور اجتماع لجنة الشؤون الشرقية في الخارجية البريطانية برئاسة كرزون، الذي قال في الاجتماع بكل ثقة: «سياستنا هي سياسة حسين»، وحين طلب من فيلبي إبداء رأيه في هذا، أفزعهم فيلبي بقوله: « إن بمقدرة عبدالعزيز أن يستولي على مكة متى ما أراد»، واستهجنت اللجنة هذا الرأي، لكنها عندما وصلتها أنباء انتصار عبدالعزيز على الشريف في معركة تربة وسحق جيشه وفرار قائده إلى الطائف، استدعت فيلبي للاجتماع، واعترف كرزون بخطئه، وقررت بريطانيا مراجعة سياستها، ما يدلل على أن كفة عقول ساسة بريطانيا كلها آنذاك، طاشت أمام كفة فيلبي، الرجل الذي كان استحق بعدها أن يكون رجل الملك عبدالعزيز وموضع ثقته.
ومن الأدوار التي قام بها فيلبي مع عبدالعزيز، مرافقة ابنه الأمير فيصل ابن الرابعة عشرة آنذاك، في أول زيارة لمسؤول سعودي رفيع المستوى إلى بريطانيا، وهناك طرح الوفد مطالب الملك عبدالعزيز على الحكومة البريطانية في تلك الظروف الحرجة، ومنها تعيين فيلبي مفوضاً سياسياً في نجد. وقد لاحظ رؤساؤه منذ البدايات الأولى لتعامله مع عبدالعزيز أن الأخير قد خلب لبه. يقول ويلسون في برقية لعبدالعزيز عن حماسة فيلبي المفرطة: «لا أحد قام بعرض احتياجات سعادتكم وآرائكم ببيان أوضح مما فعله فيلبي».
وقد تبع عشق فيلبي لشخص المؤسس، عشق بلاده أيضاً، إذ ترك عيد الميلاد مع أسرته وسافر في رحلة استكشافية إلى شمال الجزيرة وكتب في يومياته: «لا أعرف شيئا أكثر بهجة من السفر على ظهر جمل في أرض جديدة مع جماعة من العرب».
وكان من فرط ولعه بالجزيرة وإعجابه بنمط حياة أهلها، أنه اندمج في هذه الحياة بشكل كامل، فعندما وصل الأحساء في عام 1918م أعجب بعادات أهل الجزيرة، وطريقة أكلهم باليد، واستمتع بها، بينما كان زميله يأكل بالشوكة والسكين. وكذلك حين كان زميله يتجنب مخالطة الرجال المرافقون لهم في الرحلة إلى الرياض، تحرك هو من دائرة إلى أخرى حول النيران يرتشف عدداً من فناجين القهوة، ويستمع إلى أخبارهم في الرعي أو تحركات القبائل والغزوات. ومن إعجابه أيضا أنه عندما زودهم ابن جلوي بالملابس العربية ولم ينجح زميله في التأقلم مع هذا الزي الغريب عليه، طفق فيلبي يرتدي الزي العربي بسعادة وأريحية وحرص على التقاط صور له وهو يرتديه، بل وبدأ يطلق لحيته. ومما يؤثر بهذا الخصوص، رواية لمحمد كامل عندما كان في زيارة للمملكة والتقاه في قصر الملك سعود، يقول: «في الطابق العلوي من القصر التقينا المستشرق الإنجليزي جون فيلبي أو الحاج عبدالله فيلبي في لباسه البدوي... التي عاشت في صحراء الجزيرة العربية منذ ربع قرن من الزمان وخف الرجل مسرعاً إلى الشرفة يتطلع نحو الأفق البعيد، إنه يرصد هلال المحرم الوليد. اندماج مطلق في حياة البادية استغرق هذا الأوروبي ربيب المدنية والحضارة فأحاله بدويا قحاً في مظهره ومخبره وفي تأثره بتقاليد البادية وحياة الصحراء».
ويعد فيلبي من أعظم الرحالة والمكتشفين الذين مروا على الجزيرة العربية، إذ جاءت رحلاته ثرية ومتنوعة، فدرس الإسلام وتاريخ ما قبل الإسلام إلى النيازك وخطوط الطول والعرض، ودوّن أسماء الأمكنة والأودية والجبال والأشجار، وجمع الطيور والأزهار والزواحف والحشرات، ونسخ النقوش، وسجل كل ما سمعه ورآه من الناس عن العادات الاجتماعية والتاريخ، على الرغم مما واجهه من أخطار ومشاق ومتاعب عديدة، فلم يكل أو يمل من البحث والتنقيب. وقد قال بشفافية رائعة حين بدأ هذه الاستكشافات: «طموحي كان الشهرة مهما عنى ذلك ومهما كلفني حاربت من أجلها بضراوة ولو كان طموحي هو جمع المال لكان ذلك أسهل على الفهم» ، ومن زاوية أخرى، ما من شك في أن فيلبي لم يبلغ هذه المكانة لولا دعم الملك عبدالعزيز الذي سهل له عبور أرجاء الجزيرة العربية ووفر له الحماية والدعم المادي والمعنوي، وتعد كتب فيلبي وأبحاثه منجماً غزيراً مليئاً بالمعلومات والتفاصيل عن أحداث توحيد المملكة العربية السعودية تحت قيادة الملك عبدالعزيز، وعن تاريخ الجزيرة العربية وتضاريسها وآثارها.
وعلى الرغم من الشائعات التي روجها الحاسدون ممن شككوا في صدق إسلامه، وأيضاً وصفوه بأنه عميل لبريطانيا، فقد أثبتت الأيام أنه كان بعيداً كل البعد عن هذه الفِرى، فلم يرد في الوثائق البريطانية التي رفع الحظر عنها أن الرجل بعد أن استقال من عمله الرسمي في الحكومة الإنجليزية كان يعمل لدى عبدالعزيز جاسوساً، بل العكس هو الصحيح، إذ كان مغضوباً عليه في تلك الأوساط من جراء مواقفه المناصرة لعبدالعزيز، وكذلك نقده لمواقف الدول الغربية في عدم وفائها بالعهود التي قطعتها للعرب. وأيضا بسبب إسلامه، وليس أبلغ مما قاله فيلبي لأحد من اتهموه بأنه جاسوس من (العرب)، ساخراً منه: «الحق يا صديقي أن الإنجليز ليسوا في حاجة إلى بث جواسيس من أبناء جلدتهم في البلاد التي يستعمرونها أو التي تمتد إليها مطامعهم، لأنهم يجدون دائما من أبناء هذه البلاد وتلك من يقوم لهم بأداء هذه المهمة خير قيام».