هذا العنوان جزء من بيت للنابغة الذبياني من قصيدة قالها يمدح عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر ابن أبي شِمر حين هرب إلى الشام ونزل به.
وتمام البيت قوله:
علي لعمروٍ نعمة بعد نعمة
لوالد ليست بذات عقارب
وهو ضمن قصيدة مشهورة يقول النابغة في مطلعها:
كِليني لِهَمٍّ يا أميمةُ ناصبِ
وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكب
والشاهد من القصيدة قوله:
علي لعمروٍ.....
ومعنى البيت: علي لعمروٍ نعمةٌ حديثة بعد نعمة قديمة لوالده، لم يكدِّرهما مَنٌّ ولا أذىً.
وقد أجاد النابغة أيما إجادةٍ حين قال:
لوالده ليست بذات عقارب
فقوله: «ليست بذات عقارب»: جرى مجرى الأمثال؛ لأن العقارب تلدغ، وتؤذي، وربما تميت بِسُمِّها.وكذلك المنّة، فهي تؤذي أيما أذية؛ فالعطية تتكدر بالمنّ، وتصفو بتركه.
ولهذا كان من فضل الله على المؤمنين أن وعدهم بأن يجازيهم بالأجر غير الممنون.
وهو الذي يعطاه صاحبه مع كرامة، بحيث لا يُعَرَّض له بمنة.
والمعنى أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدرٍ؛ فإن المنَّ يكدِر، وينغِّص الإنعام، قال الله -تعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} (البقرة: 264).
وباب الصدقة لا يقتصر على المال فحسب، بل في شتَّى ضروب الإحسان؛ فمن تَفَضَّل بشيء من ذلك فليتمه بترك المنّة؛ لأن من الناس من إذا أعطى عطاءً، أو بذل نصيحة، أو أسدى معروفاً - أتبعه بالمنِّ والأذى، والإدلال على من أحسن إليه.
وذلك الصنيع خلق ساقط، لا يليق بأولي الفضل، ولا يحسن بأهل النبل؛ فالمنّة تصدع قناة العزة، فلا يحتملها ذوو المروءات إلا حال ضرورة، ولا سيما منة تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.
عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
قال: فقرأها رسول الله «ثلاث مرات.
قال أبو ذر: خابوا وخسروا: منهم يا رسول الله.
قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» رواه مسلم.
قال رجل لبنيه: «إذا اتخذتم عند رجل يداً فانسوها».
وقالوا: «المنّة تهدم الصنيعة».
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «لا يتم المعروف إلا بثلاث: بتعجيله، وتصغيره، وستره؛ فإذا أعجبه هنأه، وإذا صغره عظمه، وإذا ستره تممه».
قال الحكيم العربي:
أفسدت بالمنّ ما أسديت من حسن
ليس الكريم إذا سدى بمنان
ومع المنّة وتعداد الأيادي ليس من صفات الكرام- إلا أن ذلك يحسن ويسوغ في حال المعاتبة والاعتذار.
قال ابن حزم -رحمه الله-: «حالان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما، وهما المعاتبة والاعتذار، فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي، وذكر الإحسان، وذلك غاية القبح فيما عدا هاتين الحالتين».