فاضت الصحف السعودية بمشاعر الحب والتقدير لمحمد بن أحمد الرشيد (أبا أحمد) بعد وفاته رحمه الله وجزاه خيرا عن بلده وعن أمة الإسلام. الواضح من الكتابات الكثيرة المتواصلة محبة من عرفه عن قرب وشعور من كتب بالتقدير والحب للفقيد والإشادة بصفاته الخلقية ومنجزاته المهنية.
وأجد من واجبي وأنا الذي عرفته عن قرب وعملت معه خارج حدود الوطن أكثر من أربع سنوات، أن أضيف بعض ما عندي للأمانة ولتعريف من وضع في مركز مسؤولية ببعض مزايا سلف مخلص وبطريقته في حمل المسؤولية.
وسأضع ذلك على شكل خطرات ولعلي أوفق -إن شاء الله- إلى تأليف كتاب عن تجربتي في اليونسكو أغطي فيه الأشياء المهمة المفيدة التي لا يتسع المجال لها.
ذكرت في تعليق أحتفظ برابطه في جريدة الرياض، قبل وفاة الفقيد بعدة أيام، وبدون معرفة بمرضه، أن من أهم ما جعلني أقبل ما عرضه علي من منصب في اليونسكو بعد رفضي الأولي المعروف للكثيرين في وزارة التربية هو شعوري بإخلاص ذلك الرجل. ولعلي أفصل قليلا. أول معرفتي بفقيدنا كانت من خلال اتصال هاتفي بي أراد من خلاله أن يقنعني بقبول منصب المندوب الدائم للمملكة لدى اليونسكو. يقول إنه رأى سيرتي الذاتية من خلال ترشيحي لمنصب آخر من قبل جامعتي فوجد في ما يناسب ما عرضه. مفاجأتي كانت كبيرة وطلبت منه منحي أسبوعا للتفكير على أن أحضر بعدها للرياض لتوصيل قراري لمعاليه. بعدها كلف أحد وكلاء الوزارة من منسوبي جامعتنا سابقا بالاتصال بي ومحاولة إقناعي. لم أكن حريصا على ترك عملي والمختبر الذي أسسته في جامعتي، ولقد سبق لي قبل ذلك بسنوات أن اعتذرت عن اختيار اللجنة الوطنية للجامعات الفرنسية لي للأستاذية في الفيزياء في فرنسا رغم إعلامهم لي خطيا بأن قبولي سيعقبه مرسوم بذلك من الرئيس الفرنسي.
فكرت كثيرا وحاولت أن أتعرف أكثر على ما عرض علي وبعد أسبوع سافرت إلى الرياض وتابعت النقاش في الموضوع مع معاليه ثم اقترحت أن أزور المندوبية وأطلع عن قرب على عملهم. فذكر لي بصراحة أن الكثيرين يحاولون الوصول إلى ذلك المنصب ولكنه يعتبره منصبا مهما جدا ويريد أن يقوم بأمانة الاختيار. وفكرت بسرعة وقلت لنفسي إنني قد أطلت على المسؤول المشغول والأفضل أن أوفر وقته ووقتي فقلت له إن تفكيري قد هداني للاعتذار. شكرني ورافقني إلى باب مكتبه وطلب مني المزيد من التفكير. ومن الأسباب التي دعتني للاعتذار عدم الرغبة في الابتعاد عن والديّ كبيري السن والمقيمين في الرياض. إلا أن مفاجأة حصلت كانت فارقة فقد أعلمتني والدتي الغالية، أطال الله في عمرها ورزقني برها وبر والدي رحمه الله، أنها استخارت لي وشعرت بأن الموضوع فيه خير كبير إن شاء الله. ووالله لقد صدقت فبقبولي فتحت علي أبواب خير في خدمة بلدي وأمة المسلمين لم أكن أتوقعها. واطلعت على كثير من أسرار ما يحدث على الساحة الدولية، وزاد ترحمي على الملك فيصل بعد أن اطلعت على اهتمامه باليونسكو ووعيه التام لأهمية المنظمة، وذلك من مختار امبو مباشرة وهو المدير المسلم الوحيد لتلك المنظمة الذي كشف لي الكثير من الأسرار.
بعد أشهر من تقديم أوراق اعتمادي إلى مدير المنظمة وبدئي الرسمي بعملي وقعت أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من هجمات على المملكة والإسلام من أطراف عدة على الساحة الدولية. وحضر الرشيد أول مؤتمر عام لليونسكو بعدها وأكد لي أنه يقرأ تقاريري إليه بإمعان وإن لم يعلق أحيانا. وأشهد هنا بأنه لم يرفض لي مقترحا أو طلبا خلال عملي بل على العكس فقد كانت مساندته كبيرة. وفي ذلك المؤتمر العام المهم تم تنظيم عشاء في باريس اقتصر على وزراء التربية والسفراء لدول مجلس التعاون لدى المنظمة ومدير مكتب التربية لدول مجلس التعاون الخليجي الدكتور سعيد المليص. وكانت مكانة الرشيد لدى الجميع واضحة. ولقد وجه كلامه للحضور قائلا: في هذا المؤتمر العام المهم بل والمصيري وبعد الهجمات المذكورة فإنني أريد أن أنبه إلى أن المملكة قد نزعت أحد علمائها من مكانه وكلفته بتمثيلها في هذا المحفل الدولي المهم. ولذلك فإننا نتوقع أن يقوم كل سفير خليجي لدى المنظمة ببذل أقصى الجهد لدعم الدكتور العادل بأقصى قوته وإمكاناته، وذلك لما فيه خير دول المجلس. بعدها انسحب الرشيد مبكرا ورافقناه أنا والدكتور المليص. كلفني الرشيد بأمور عدة في ذلك المؤتمر العام المهم. ومنها طلبه بأن أحاول الوصول إلى تعريف دولي للإرهاب تعتمده المنظمة. وتوصلت إلى إقناع الدول الأعضاء بوضع الموضوع على جدول أعمال المؤتمر. وقرر المؤتمرون تشكيل لجنة تضم ممثلا عن كل من المجموعات الجغرافية الخمس في المنظمة للقيام بذلك. بعدها تشكلت المجموعة واختارتني مجموعة الدول العربية ممثلا لها. وبذلت جهودا أولية في اجتماعات وأعمال تلك اللجنة ولكننا فوجئنا بمدير المنظمة يعلمنا بأن كوفي عنان قد طلب منه ترك تعريف الإرهاب لمنظمة الأمم المتحدة التي ستقوم به قريبا. والكل يعلم بأن ذلك لم يتم إلى اليوم؟ بعدها تم تركيزي على قطاع العلوم وتحديدا المياه والبحوث الأساسية. وفي مجال المياه تمت إنجازات عدة ساهم في كثير منها لاحقا وعلى مدى سنوات نائب الوزير الدكتور علي الطخيس حفظه الله. ولا يفوتني توجيهه لي رحمه الله، بالاهتمام بموضوع الآثار وعدم تركها ثغرة ينفذ منها الأعداء. ولقد سعدت بالعمل مع أساتذة الآثار في المملكة وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور سعد الراشد الذي يماثل وزيره في إخلاصه ومهنيته. رتب الراشد زيارة للآثار تعرفت فيها على الجهود البحثية لحماة تاريخ المملكة في أجواء صعبة. وكما توقع الرشيدقع الهجوم وتم استغلال موضوع قلعة أجياد ونقلها لهجوم عنيف. رددت عليه بتأن جعل المهاجمين يترددون. وقد بينت بوضوح جهود بلد الحرمين الشريفين في حماية وخدمة وصيانة الحرمين مما أكسبني تعاطفا واحتراما للمملكة جعل سفير الدولة المهاجمة يهرع إلي طالبا المصالحة فقلت لقد بينت لكم سابقا مكانة بلدك في المملكة ودعوتك إلى عدم نقل الهجوم إلى المجلس التنفيذي، والحمد لله على تعديل موقفك. وقد ضمن المجلس التنفيذي مداخلتي الشفهية المطولة في تقريره ولدي صورة عنها.
إلا أن الأخبار القادمة بينت استمرار بعض الصحف في الهجوم. فقررت مستعينا بالله، وبعد اختياري من قبل المقام السامي لتمثيل المملكة في مؤتمر وزراء الثقافة في العالم، أن يكون المؤتمر مناسبة لإنهاء موضوع أجياد. وبالفعل قمت بالاتصال بوزير ثقافة البلد المعني وتوصلت معه ومع سفيرهم إلى اتفاق على طي صفحة أجياد. ووزعت على الوزراء دراسة لي عن اليونسكو موجودة على صفحتي الويب. تقريري عما تم رحب به الرشيد رحمه الله.
أعود إلى المؤتمر العام، ومع بدء الهجوم على نظام التربية في المملكة من قبل المغرضين وربطه بنشر كراهية الآخر بين الطلبة السعوديين كما يدعون، واتخاذ ذلك مدخلا للهجوم على الإسلام كتبت تصريحا رسميا وعرضته على الرشيد -رحمه الله- في مكتبي، وكنا بانتظار الدكتورة ثريا عبيد والدكتور صالح العذل، وكان بيننا اجتماع رباع مهم.
الدكتور الرشيد ترك لي نشر الإعلان بعد أن استفسر عن آية استشهدت بها وركزت عليها وهي الثامنة من سورة الممتحنة، التي فهمت معناها خلال سني دراستي في فرنسا، التي كان لها الأثر الحاسم في طريقة تعاملي مع أصدقائي في الغرب خاصة. بدأت مع ذلك التصريح جهودا كبيرة لبيان أن الإسلام لا يكره بالآخر بل على العكس تماما فهو يحث على الاحترام بين الثقافات.
مع الأسف البعض بيننا وبرفضهم للآخر إن لم يكن صورة لهم يساعدون أعداءنا من حيث لا يدرون. وكان من الواضح لي ضرورة الوصول إلى اتفاقية دولية في موضوع الاحترام بين الثقافات. المسيئون لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولثقافتنا وديننا يعتبرون أن حرية التعبير تحميهم. سمو وزير الخارجية كلف بدعمي بخبراء من وزارات عدة في الدولة للإسهام في جهود تطوير الاتفاقية. دور المملكة كان يتقدم باستمرار إلى أن تم اختيارها بين ست دول تقود تطوير الاتفاقية.
في 2003 حدث أمر مهم على صعيد آخر وهو الطاولة المستديرة لوزراء الاتصالات في العالم. وقد سمح لي الرشيد وقتها بترك وفد المملكة إلى المؤتمر العام والانضمام لوزير الاتصالات ووفد المملكة المرافق له. في نهاية الاجتماعات ترك لي وزير الاتصالات رئاسة الوفد وكان الوزراء يناقشون بحدة ما عرضناه من تضمين إعلانهم فقرة تربط حرية التعبير باحترام العقائد والأخلاقيات. وبصعوبة بالغة وبعد ساعات من النقاش الحاد أحيانا توصلت إلى نزع موافقة الوزراء وتضمن إعلانهم ذلك، ورفعت بذلك إلى الوزراء المعنيين، ولكن ذلك كان مجرد إعلان دولي لوزراء الاتصالات في العالم. والإعلان ذو قيمة معنوية كبيرة ولكنه لا يلزم قانونا. استمررت بالعمل على الاتفاقية الملزمة قانونا والرشيد يتابع عن قرب -رحمه الله- وتكشفت لي من خلال الجهود أشياء كثيرة أرجئها إلى كتاب إن شاء الله. رحم الله الرشيد وكل من حسن خلقه وكسب قلوب العباد وتفانى في عمله وأخلص في اختيار من يكلفه بمسؤولية وبعدها بإعانته على أداء المسؤولية وجعله مثالا يحتذى لما فيه الخير إن شاء الله.