من السهولة بمكان أن أستلَ قلمي، وأعلن حرباً على الفساد والمفسدين في الوزارات والهيئات الحكومية والقطاع الخاص بلغة لا هوادة فيها، تبدأ من صغار الموظفين إلى كل «كائنٍ من كان»، عندها سأكون حديث الاستراحات وبطل القروبات، وستحمل كل كلمة أقولها حصانة الرأي العام، فلا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، أعلم أني أفرّط كثيراً في الجماهيرية حين أُقارب موضوعات مثل الفساد بلغة تعتمد التحليل والبحث في الأسباب، فهذه لغة إرجاف وجبن وتفريط في المسؤولية كما يراها البعض، رغم أن التعريض الجماهيري والهجوم والغمز واللمز والتشكيك أكثر وأشد وطأة وضرراً هذه الأيام من محاسبة الجهات الحكومية وتآمر الفاسدين والمفسدين.. ولم أتخل عن طريق الجماهيرية زهداً فيها بقدر يقيني أن هذا الطرح لا يساعد على فهم ظاهرة الفساد مطلقاً!!
لم يدع صاحب قلم، ولا نجم شاشة، لغة الجماهير في مواجهة الفساد إلا امتطاها وركب موجتها، فمنهم من رفعته حتى إذا انحسرت موجته سقط على حكايات وروايات، تكشفت للناس زيف بطولته والتي حاول من خلالها أن يمرر موضوعاً أو مصلحة عبر سيل قلمه السيّار أو حضوره الأخَّاذ.. بالتأكيد أن هذه شريحة لا تُعبّر عن الأقلام والشخصيات التي التزمت المواقف الثابتة والصادقة، لكن علو الموجة وفورة التصفيق تُغري من لا يجيد ركوب الأمواج بركوبها!!
قد يعتقد قائلٌ أني أدعو لوأد الأصوات والأقلام التي تتحدث عن الفساد والمفسدين، وهو قول قد يتسرَّب إلى فهم من يقرأ هذا المقال فلا يتمه حتى آخر كلمة فيه، فمن وجهة نظري أن ضجة هذه الأقلام والأصوات والموج الهادر الذي تعج به وسائل الاتصال الاجتماعي، وخصوصاً «تويتر» هي أكبر حماية للفساد والمفسدين، لأنها تمنحهم مصل الحصانة، فتجعل كل شيء حولنا فاسداً والصالح هو الاستثناء!!.. بل إن المتأمل في سياق أُطروحات البعض منهم، ولا أقول الكل يلحظ تناقضاً فاضحاً في التّعاطي وتناول الموضوعات، يكشف أن رياح رغبات الجماهير واتجاهاتهم اللحظية، هي من يقود رؤيته لأهم الموضوعات الحيوية والحاسمة في البلاد.
قبل أيام عجَّت وسائل التواصل الاجتماعي باللوم لرفع ثمن سيارات كبار موظفي الدولة، ودخل سباق الجماهيرية فيه شخصيات وأقلامٌ تريد أن تسجل حضوراً يلبي رغبة الجماهير ويجاري تطلعاتهم، واعتراضي ليس على الفكرة بقدر ألمي على غياب المبدأ، فقد تملَّكني العجب أن لا يطرح أحدٌ إعادة النظر في الأوضاع المالية لكبار الموظفين باعتبار أنها أحد أهم الأبواب التي يدخل منها الفساد بصدرٍ عارٍ!، لا أزال أتذكَّر وفداً حكوميا رفيعاً يمثِّل المملكة في مناسبة هامة جداً، اكتشفت أن قيمة انتداب المسؤول فيه برتبة وكيل وزارة بالنظام، لا يتعدى قيمة إيجار غرفة متواضعة في فندق 3 نجوم!!، الأدهى أن سفيراً ممن خدم البلاد سنوات طويلة توفي، يعيش أبناؤه الآن في أكثر من بلد يُكابدون الحياة، وأحد أبنائه المؤهلين يُعاني البطالة!!.. وسفير آخر يصل إلى سن التقاعد بعد سنوات طويلة من تمثيل بلاده، فيعود دون أن يكون له بيتٌ يملكه، بل إن التأمين الطبي الذي يمنح له كسفير يتوقف!!.. شباب متطلع إلى الحياة يمنح حق تقييم قروض لمشروعات بمئات الملايين في صناديق حكومية كبرى ولا يتحصلون على رواتب تُناسب تعليمهم وتأهيلهم، وتجد من يُدافع عن سياسة توحيد رواتبهم مع جميع موظفي الدولة!!!
هذه ليست مبالغات أو أحاجي تخدير، بل حقائق يعرفها من تعمَّق في الواقع ويعرف أنها غيضٌ من فيض الكثير ممن لا يتحدثون ولا يظهرون للإعلام.. نحن اليوم بحاجة إلى فضح قضايا الفساد والتشهير، ومواجهة المسؤولين الذين رفع خادم الحرمين الشريفين أمامهم كلمة الله وأعلن الحرب عليهم، لكننا بالمقابل بحاجة إلى البحث في مواجهة الفساد وتحليل أسبابه وتجفيف البيئة التي يظهر فيها، بعيداً عن أُطروحات راكبي الأمواج الذين أصبح مشاهيرهم علماءُ دين ومثقفون وكُتَّاب، بل ورجال أعمال من الجنسين!!
أخيراً: هل ننتظر في واقع كهذا، مزيداً من المسؤولين النزيهين أم الفاسدين!!.. سؤال أترك إجابته للحكماء، بعيداً عن راكبي الأمواج الذين حين ترتد أمواجهم، لا نجد من ورائهم إلا الزبد؟؟!!