آفة من الآفات المذمومة وخلق من الأخلاق السيئة، يكفيها ذماً أن جعلها النبي صلى الله عليه وسلم إحدى علامات المنافق، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، ويكفي تحذيراً منها أن كانت سبباً لاتسام صاحبها بالفجور والذي هو طريق إلى النار -والعياذ بالله- ففي الصحيحين أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (...وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار). ومع هذا التحذير الشديد، وهذا الوعيد الأكيد إلا أن الكذب -وللأسف- أصبح له سوقه الرائجة، وخاصة في هذه الأيام التي جعلت من البعيد قريباً وربطت العالم في وسائل للتواصل الاجتماعي حتى أن من يريد الكذب يبلغ بكذبته وشائعته أقاصي الدنيا في دقائق قليلة، وكأني استشعر الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم -ورؤيا الأنبياء حق- حينما أخبر عنها كما في صحيح الإمام البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل وفيه: (..إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما انبعثا لي، وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت ومعهما..).. ثم قص قصة رجل مرَّ به وذكر ما يصيبه من العذاب في البرزخ، ثم ذكر قصة رجل ثان وهو الشاهد في حديثنا، حيث قال (فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه ويشرشر- يقطع- شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله! ما هذان؟ فقالا لي: انطلق انطلق... حتى قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو إلى بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق...) فيالله كم ينقل الكاذب من شائعات نفسد الود وتنشر السوء والباطل والشر، وتغير الحقيقة. وتأملوا معي كلام الإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه ويفسد عليك تصورها وتعليمها للناس، فإن الكاذب يصور المعدوم موجوداً والموجود معدوماً، والحق باطلاً والباطل حقاً، والخير شراً والشر خيراً.
وفي هذا المقام ونحن نتحدث عن هذه الآفة الخطيرة يحسن بنا التركيز على صور من صور الكذب والتي استخدم فيها وسائل التقنية والتواصل الاجتماعي؛ تحذيراً من هذا السلوك المشين، والذي أصبحت له وسائله الحديثة وأساليبه المتعددة، حتى تحول العالم بعد أن كان يقال أنه قرية صغيرة إلى جهاز هاتف يحمله الصغير والكبير، تتعدد فيه وسائل التواصل من ما يسمونه بالتغريدات أو غيرها التي قد تكون مكتوبة أو مسموعة أو مصورة أو مرئية عبر برامج الفيديو، فنقول إن من صور الكذب التي يمكن أن تستخدم عن طريق هذه الوسائل الحديثة:
1. الكذب على الله جل جلاله، وقد يستغرب البعض -هل يحصل ذلك- والإجابة نعم، فإن من يستخدم تلك الوسائل في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، فهو أحد الكاذبين، ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}. والبعض هداه الله يتساهل في هذا الأمر ويجعل من نفسه مفتياً دون علم، والفتوى كما تعلمون لها أهلها وهم أهل الذكر والعلم، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
2. ومما يتأكد التحذير في هذا المقام ونحن نتحدث عن صور الكذب في الوسائل والتقنيات الحديثة، التحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يتمثل بأن ينسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، وقد تعددت الحكايات والأقوال المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوسائل، بل بعضهم يصيغها بعبارات مشوقة ويختمها بالعبارة المشهورة (انشر تؤجر)، وكيف يؤجر من ينشر الكذب ويأتي بالأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ويصورها للناس على أنها من الدين! وما هي إلا ترهات وخزعبلات موضوعة ومكذوبة، ولهذا حري بغير المختص بالعلم الشرعي أن لا ينشر حديثاً إلا بعد التثبت من صحته من أهل العلم، وقد تعددت -ولله الحمد- الوسائل التي يعرف فيها الحديث الصحيح من غيره، وفي الأحاديث الصحيحة غنية للمسلم في دينه وعلمه وعمله.
3. ومن صور الكذب المذمومة في وسائل التواصل والتقنيات الحديثة ومما يسهم تباعاً في نشر الشائعات والأخبار المغلوطة، انتحال شخصية من الشخصيات المشهورة أو المعروفة والتسمي بأسمائهم والتصريح والكتابة وكأنها من نتاجهم أو أفكارهم أو نسبة الكلام إليهم، بل البعض -هداهم الله- يكون لهم مقصد سيء من وراء هذا الانتحال المزيف. وإني أذكر هذه الصورة وأنزه إخواني عنها وعن ما قبلها وعن ما بعدها، ولكني أذكرها للتحذير من الانسياق وراء تلك الصفحات أو المواد المزيفة والمكذوبة. وهذه الصورة تدعوني إلى الحديث عن صورة أخرى ترتبط بهذا الأمر.
4. فمع تعدد التقنيات وتطور الوسائل فإنه يمكن لضعيفي الإيمان ومن في قلوبهم مرض التزييف والكذب بشتى الوسائل بتعديل الصور أو مقاطع الفيديو أو ربط أصوات بشخصيات فيتخيل للنظار أو السامع صحة ذلك الخبر أو تلك المعلومة، ولهذا يجب التثبت وعدم التسرع في الحكم على الأشخاص، وخصوصاً إذا كان المنشور يحوي مثلبة لشخص أو مسؤول أو ينبني عليه حكم أو قرار أو خبر عام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وقال الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: المؤمن وقاف حتى يتبين.
وينظر الناظر في انتشار كثير من الشائعات ونسبتها ادعاء إلى أخبار عاجلة أو مصادر موثوقة، ثم عند التثبت والتأكد يتضح زيف الخبر وكذبه، وبعض بل وكثير ممن ينشر تلك الأخبار غير الصحيحة يؤمل في نشره ذلك الخبر السبق والإثارة وربما يتطلع إلى تكثير متابعيه، والمنهج النبوي هو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم، قال الإمام النووي -رحمه الله- تعليقاً على هذا الحديث وغيره: ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب.
5. وقد يكذب البعض بقصد إضحاك الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه الإمام الترمذي وغيره: (ويل للذي يحدث بالحديث، ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له).
قال الإمام المناوي -رحمه الله- في شرحه للحديث: كرره إيذاناً بشدة هلكته؛ وذلك لأن الكذب وحده رأس كلِّ مذموم، وجماع كلِّ فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان، ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء، إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة.
6. ومن صور الكذب المذمومة التي ربما تستخدم فيها وسائل التواصل والتقنيات الحديثة ما يتجرأ عليه بعض ضعيفي الإيمان من استخدام بعض المواقع الإلكترونية في ترويج سلعته، كمن يريد مثلاً بيع سيارة له عن طريق تلك المواقع -وهذا الأمر ليس فيه بأس إذا خلا من محاذير البيع الشرعية - لكن المحذور الذي هو مدار حديثنا هو ما يفعله بعض ضعاف النفوس من تصوير سلعته: سيارته أو غيرها بطمس عيوبها والتسويق لها بما ليس فيها مما يعد كذباً من البائع على المشتري، وربما بعضهم هانت عليه نفسه بأن يحلف الأيمان الكاذبة في سبيل تسويق سلعته، وقد جاء الوعيد الإلهي والتحذير النبوي في هذا المقام.
ففي صحيح البخاري عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: (أن رجلاً أقام سلعة في السوق، فحلف فيها، لقد أعطى بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين)، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً}.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال رجل مسلم..) الحديث رواه الإمام البخاري...