بعد عامين من مواصلة الليل بالنهار، وإعلان انطلاقة ورشة عمل ضخمة في أركان المدينة، توجت دبي نجاحها في استضافة معرض اكسبو 2020 في لحظة مدهشة جمعت الفخر والذهول بما حققته تلك الإمارة الصحراوية من إنجاز دولي مشهود، وفي حين أن الجميع أعتقد أن المدينة ستأخذ استراحة ليست قصيرة لتلتقط أنفاسها، وتمنح نفسها فسحة من الراحة لتتويج هذا الإنجاز، أعلن الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي انطلاق مرحلة ما يسمى بالعصف الذهني أو ما يعرف بالإنجليزية بالـBrain «Storming» وهي حالة جماعية إبداعية لمحاولة خلق أفكار أو حل مشكلة عبر الأعضاء المشاركين. ولكم أن تتخيلوا أن يكون أعضاء رحلة العصف الذهني ومن هم على متن هذا المركب الخلاق، شعب كامل، بكافة أطيافه وأعماره ومناصبه، نعم، هذا ما حدث حينما أعلن الشيخ محمد بن راشد أنه جرب العصف الذهني مع مجموعات صغيرة من قبل، ولكنه أحب أن يجربه مع شعبه هذه المرة، وكانت النتيجة 65 ألف فكرة لتطوير أكثر القطاعات حيوية وارتباطا بسعادة ونمو الإنسان: الصحة والتعليم.
المثير فعلا هو ما حدث بعد استقبال تلك الأفواج من الأفكار التي نتجت عن ذلك العصف، حيث قررت الحكومة أن تختلي بنفسها في إحدى جزر البلاد، وتناقش مئات الآلاف من الأفكار التي تلقتها من الشعب الإماراتي وبعض الشعوب الخليجية والعربية الشقيقة، فإن كانت نسبة الإبداع والتركيز تتضاعف حين يختلي الفرد الواحد بنفسه، ويبتعد عن ضجيج المدينة وضوضائها، فكيف إن تحول هذا الفرد إلى مجموعة من وزراء الدولة وصناع القرار، يبتعدون مع قائدهم بعيدا عن كافة ما قد يشوش تفكيرهم ويثنيهم عن طبخ الأفكار على نار هادئة حتى تستوي وتنضج، وتقدم على طبق من الجودة والجاهزية، في مختبر أسماه رئيس الحكومة «مختبر الإبداع الحكومي».
قد يتساءل البعض ما الهدف خلف طرح مثل تلك التجربة الإماراتية في صحيفة سعودية محلية، جوابي لهؤلاء سيكون كالآتي: إن الانبهار بالتجارب الإبداعية لا يجب أن يكون حكرا فقط بالنموذج الغربي المتصدر والمتفوق غالبا، والمستأثر بأدوات ومكونات تطور ونهوض الإنسان، وليس من العدل أو الإنصاف أن نمجد العقلية الغربية ونغدق عليها بالمديح والإشادة في حين أن العقلية العربية والخليجية تحديدا أنتجت ولازالت تنتج أفكارا رائدة وإنجازات مشهودة.
ثانيا، إن تلك الأفواج المبهورة من السعوديين والتي تتجاوز مئات الآلاف أحيانا ممن ينكبون على الإمارة مع إطلالة كل إجازة، تتساءل دوما بعد انتهائها.. ما الذي يجعل تلك الإمارة تتقدم وتزدهر وتنمو كل لحظة، في حين أننا مازلنا نطالب بأبسط الخدمات والمرفقات الحديثة منذ سنوات طويلة دون استجابة واضحة؟ ما الذي يقف خلف تلك السلسلة المتتابعة من الإنجازات؟ أهي الرؤية أم التخطيط أم العمل المتواصل بلا هوادة أم مزيج من كل ذلك؟ الجواب يكمن في: العقلية الإدارية التي لا تخاف التغيير ولا خوض غمار التحديات، تلك التي تحرص أن لا تدير الدولة فحسب، بل (تتفنن) في الإدارة.. كما رأينا في فكرة الخلوة الوزارية والعصف الذهني الشعبي ومختبر الإبداع الحكومي ومن قبل فكرة العميل السري.
مخطئ من يعتقد أن دبي نهضت بأموالها، دبي انطلقت نحو التفوق برؤية قائدها ومصمم رحلتها نحو العالمية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ومخطئ من يعتقد أننا نريد استنساخ مولاتها فنادقها ومزاراتها السياحية، فنحن نريد أن نحاكي العقلية التي صنعتها، وباتت تجذب إليها ملايين السياح والزوار على مدار العام وفي مقدمتهم الشعب السعودي.
أتمنى أن يقع هذا المقال بيد أحد الوزراء او صناع القرار ليأخذ لمحة عن كيف يمكن للمسؤول أن لا يفكر خارج الصندوق فحسب، بل يتخلص من الصندوق نفسه! ويقرر بجرأة أن يحاكي تلك الأفكار الإدارية الرائدة وغيرها من الأفكار حول العالم.. فنحن بحاجة ماسة إلى عنصر الإبداع والابتكار خصوصا في ميدان العمل الحكومي ذي الطابع التقليدي الممل، حتى لا يخنقنا الروتين والتكرار.
نبض الضمير
لا توجه الناس دائما إلى كيفية أداء أعمالهم، أخبرهم بالمطلوب وسيفاجئونك بابتكاراتهم».
جورج باتون