يعد العقل أحد المكونات الرئيسة في كل المخلوقات، ولكن بمستويات مختلفة من حيث القدرة والاستعداد، وخص الله الإنسان عن سائر المخلوقات بعقل يمتلك قدرات متعددة من حيث النوع، معقدة من حيث التركيب، ومختلفة من حيث المستوى، ودرجة النضج والتكامل، جعل الله الناس مختلفين في هذه القدرات ليكون بعضهم لبعض سخريا، أي كل سخر لخدمة الآخر وفق ما يتملكه من قدرات تميز بها عن غيره، وبالتالي هيأته تلك القدرات ليقوم بأدوار معينة تتوافق مع أوجه استطاعته، ومن هنا يتحقق التكامل والتنوع في الخدمة المقدمة من كل منهم للآخر، وبهذا تتجلى عدالة الله وحكمته في جعل البعض لبعض سخريا.
ومن عدل الله سبحانه وتعالى، أن زود العقل البشري بالإمكانات التي تؤهله للتعرف والحكم على كل الخيارات والسبل المتاحة أمامه، وأن يختار من بينها ما يطمئن إليه، ويرتضيه ويتقبله، وفق المحددات والضوابط والمعايير التي يحتكم إليها في أنماط السلوك التي يسلكها خلال مسيرته الحياتية، قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (10) سورة البلد.
فكل إنسان مهيأ بعقل يرشده ويدله ويعرفه طريق الحق والخير، ويرشده ويدله ويعرفه طريق الباطل والشر، وبالتالي عليه أن يوازن بينهما، ويختار منهما ما يتوافق مع المعطيات التي يؤمن بها ويأنس إليها ويرتضيها، وعليه بطبيعة الحال أن يتحمل التبعات المترتبة على اختياره في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
سئل الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، عن أجمل كلمة قرأها في حياته فقال: (لقد قرأت لأكثر من سبعين عاما، فما وجدت حكمة أجمل من تلك التي رواها إبن الجوزي رحمه الله، في كتاب “صيد الخاطر”) حيث يقول: (إن مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وإن لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها).
حكمة فيها عظة وعبرة لمن أراد الاعتبار، فيها تنبيه للغافل والمغتر بصحته وقدرته، حكمة في منتهى الصدق، ومن دلائل صدقها مطابقتها للحالة النفسية التي يشعر بها كل إنسان عندما يعقد العزم على أداء طاعة، حيث ينتابه شعور التثاقل والتسويف، والتقليل والاختصار، ومخاطبة النفس بأنه مازال في الوقت متسع، وبالتالي لا بأس من الانتظار والتأجيل، وثبت أن هذا الانتظار والتسويف والتأجيل يطول ويطول، لدرجة يجد البعض نفسه وقد فرط وأضاع الكثير مما لم يعد يقدر عليه على الرغم من أنه يرغب في أدائه ويتمنى أن يدفع الكثير كي يأتي ببعض ما أجل وسوّف أداءه عندما كان يستطيع ذلك.
ومن المتواتر أن من يمن الله عليه ويقوى على أداء الطاعات بمغالبة سلطة التسويف يتملكه بعد أدائها شعور براحة في البال، ورضا عن النفس، وبالطمأنينة تغمره، وسعادة تبهجه.
وثبت أن الإنسان عندما يهم باقتراف معصية، ينتابه شعور بالرغبة المستعجلة، والنشوة العارمة التي تتناسى كل العواقب والمآلات، وتجده يمني النفس بالمزيد والمزيد من أوجه الاستمتاع الضار بل والمحرم، فالنفس الأمارة بالسوء لا ترتوي أبداً من مقارفة المعاصي، تلهث وراءها وتتبع المعصية تلو الأخرى في نهم لا ينقطع، وشوق يتجدد، وتتبع لا يكل ولا يمل.
وبعض مقترفي المعاصي وأخص الذين غشا قلوبهم ران الغفلة لا يكترثون بتكرار متابعة ارتكاب المعاصي، وهؤلاء في خطر، والبعض الآخر يشعر بألم وندم وحسرة، وكراهية لنفسه ولوم لها واحتقار، وهؤلاء قد تستيقظ أوجه الخير فيهم ويعودون إلى رشدهم ومجانبة الخطايا.
لا ريب أن في أداء الطاعات مشقة، وفيها نصب وتعب، وفي كثير من الأحيان تعارض مع رغبات النفس وشهوتها، وبطبيعة الحال الغاية من هذا جلية لا تخفى على ذي لب، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ).
ما أروع مغالبة النفس على المكاره، ففي الانتصار عليها فوز بالجنة ونجاة من النار.